د. حمزة بن محمد السالم - الجزيرة السعودية الأم ملجأ الطفل في كل أحواله، فهي المنتهى في العلم والقدرة والمحبة. حتى إذا شب قليلا زاحم أبوه أمه في هذه المنزلة الرفيعة من الكمال المطلق في نظر الصغير، ثم يتفرق الناس بعد ذلك. ففي المجتمعات البدائية تطول مدة الحضانة الفكرية فيشيب المرء وهو ما زال في حضن أفكار أبيه وأمه. ولذا تعيش هذه المجتمعات داخل بدائيتها بعيدا عن التطوير والتجديد. وقد ذُم هذا في القرآن كثيرا، كقوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ}، وفي الآية الأخرى {عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}. والمجتمع البدائي لا منطق له، لذا فقد جعلوا من حضانتهم الفكرية في اتباع آثار آبائهم حُجة على المخالفين. وهذه الحجة برغم أنها حجة ساقطة غير منطقية، إلا أنها حُجة متمكنة في نفوس أفراد المجتمعات البدائية، ولذا وصفها إمام التوحيد محمد بن عبد الوهاب «بالحجة الملعونة». والناس في ذلك طرفان ووسط. فأفراد المجتمعات البدائية تختلط عليهم الحضانة العاطفية مع الحضانة الفكرية فيغلبون الأولى حتى تصبح هي دليل الثانية وأداة توجيهها. وعلى النقيض من ذلك المجتمعات الثورية الجاحدة التي تسحب التمرد الفكري ليقود الجحود العاطفي ضد آبائها وأجدادها. والمجتمعات المتطورة هي أمة وسط، تحتضنها العاطفة فتشكر آباءها وتبجل أجدادها، ولا يلزم من هذا الاحترام حتمية استمرار الحضانة الفكرية. ولذا تطور المسلمون عندما كانوا أمة وسطا، حتى انتقل هذا النوع من الوسطية بين العاطفة والفكر إلى بلاد الفرنجة خلال ستة قرون، فأصبحوا دولا متقدمة وأمسينا دولا متخلفة. والأديان هي أصل ثقافة المجتمعات، والثقافة عاطفة وفكر، ولذا لعب رجل الدين دور الحاضن الفكري والعاطفي في المجتمعات بعمومها. ولو سبرنا المسلمين عبر عصورهم وبلادهم لوجدنا أن أكثر أزمنة المسلمين انحطاطا دينيا وفكريا وأخلاقيا كانت في الدول والأقاليم التي تختلط فيها حضانة رجل الدين العاطفية بحضانته الفكرية فيصبح رجل الدين قديسا لا ينطق عن الهوى، ومن ثم ينبري السفهاء والعامة للنيل من كل مجدد ومصلح ومفكر بالقتل والسجن والحرق والتهديد. فعامة الناس -بغض النظر عن درجة تدينهم- تسوقهم عاطفة الخوف الفطرية من الغيب والموت والبعث التي يجدون منفسا لها في رفع الشيخ من درجة الحضورية إلى درجة من درجات الغيبية - وهذا هو أصل الشرك وسببه-. والأقرب من الغيب أقرب إلى الصواب، فلا يُناقش رجل الدين ولا يُحاج ولا يجرؤ أحد على تحدي قوله شرعا ولا عقلا. فتظهر في أمثال هؤلاء حب الدنيا، وتنشأ في سلفه بلادة فكرية ناتجة عن الطاعة الفكرية المطلقة الممنوحة له من أفراد هذه المجتمعات، فالفكركالماء ينتن إن لم يتجدد ويُحرك. حب المريدين وطلبة العلم والعامة لمشايخهم فطرة طبيعية، كحب الوالدين، وهذا هو الاحتضان العاطفي الفطري، وهو محمود ما لم يشمل الحضانة الفكرية. فشرعية الفتوى في قوة استنباطها من الكتاب والسنة لا في مجرد ترديدها بلا إدراك خلف قوم قد رحلوا عن زمان غير الزمان، وخلوا عن أقوام غير الأقوام. وما أحل التقليد المقيت محل شرع الله إلا أن المريدين والأتباع عادة ما يكونون من ضعفاء العقول فقادتهم بلادتهم إلى أن جعلوا من مخالفة الشيخ إساءة شخصية إليه. ثم حمل السفهاء والعامة هذا المفهوم الخاطئ فعاشوا به وورثوه أبناءهم وأحفادهم فأضاعوا دينهم ودنياهم، فضلوا وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل. ومما سكت عنه في هذا، أن لحوم العلماء لم تكن مسمومة في القرون الثلاثة المفضلة لأن مخالفتهم ومحاجتهم لم تُعد قط طعنا في دينهم أو عقولهم، فالدين دين الله. ولم تظهر هذه المقولة إلا مع بدايات القرون الوسطى المظلمة للفقه الإسلامي التي مهدت للكهنوتية في الإسلام، ومن ثم امتدت إلى جميع المظاهر الثقافية في بلاد الإسلام. فهل رُؤي قط مجتمع كهنوتي في مصاف الأمم المتقدمة؟ وهل ستجد بليدا قرأ هذا المقال ولم يتهم نيةكاتبه ولم يطعن في عقيدته وإيمانه.