هل هناك ليبرالية في السعودية؟ هذا سؤال مشروع قطعاً. لكن حقيقة أن هذا السؤال طرح نفسه هكذا، على الجميع، بمن فيهم خصوم الليبرالية، وأنه تحول إلى منطلق للكثير من الجدال والخصومة، يعني أن شيئاً ما تغير، وأن الليبرالية، مهما كانت صيغتها، بدأت تفرض نفسها، في هذا الشكل أو ذاك، كسلوك أو كفكرة، وقبل هذا وذاك كموضوع للأخذ والرد، وللرفض والقبول. وهذا بحد ذاته تغير دلالته واضحة. قبل ربع قرن على الأقل لم يكن من الممكن طرح مثل هذا السؤال. الآن بدأت كلمة الليبرالية تتسلل إلى ثقافة المجتمع. بل يبدو أن هذه الثقافة دخلت مرحلة التطبيع مع هذا المصطلح. لم تعد التسمية من المحرمات القطعية مسبقاً كما كانت من قبل. أضحت محل نظر وجدال، وموضوعاً لسؤال، ولشروط، وشروط مقابلة. أصبح من الممكن أن يعلن أحدهم، أو إحداهن، على الملأ، ما لم يكن يجرؤ على إعلانه، وهو أنها، أو هو ليبرالي. وقد برزت في السنوات الأخيرة أصوات كثيرة من النساء والرجال، داخل الحقل الثقافي وخارجه، اكتشفت فرديتها، وفرادتها، وحقها على المجتمع بأن يعترف بهذه الفردية، وأن يعطيها ما يرتبط بها من حقوق. واللافت في هذا السياق، أنه إذا كان من الطبيعي في مجتمع محافظ أن يكون السبق في ذلك للرجل، إلا أن المرأة اقتحمت المجال الأكاديمي، والثقافي، وفرضت نفسها كصوت قوي ومستقل ومتوازن. واللافت أيضاً، وفيما يتعلق بموضوعنا أن عدد الكاتبات المحترفات بتميز، واللاتي أصبحن ينافسن الرجال، لم يعد من السهل حصره. كل واحدة من هؤلاء تقريباً تكتب بانتظام، ولها مساحة خاصة بها في هذه الصحيفة أو تلك. طبعاً لا يمكنني القول إن جميع هذه الأصوات تنتمي إلى التيار الليبرالي. لكن المنهج الذي تعتمده أغلبهن في الكتابة، والقيم التي تنتصر لها، تنسجم على الأقل مع القيم الليبرالية. هناك أصوات نسائية أخرى، ربما أن عددها أقل أو أكثر، ترفض القيم الليبرالية، وتحاربها بكل شراسة. وهذا ليس فقط حقها المكتسب، بل علامة أخرى على التغير الذي حصل ويحصل للمجتمع. خروج صوت المرأة إلى العلن، ومشاركتها في تناول الشأن العام، مؤشر آخر ومهم على بروز فكرة الفرد في المجتمع. هذا العدد الكبير من الكتاب والكاتبات يطالبون المجتمع الاعتراف بفرديتهم، وبحقوقههم الفردية، وعلى أساس من القانون وضوابطه. وإذا أخذنا في الاعتبار أن هذا العدد لا يمكن علمياً أنه لا يمثل إلا نفسه، وإنما هو صوت لشريحة اجتماعية أوسع بكثير، فإن هذا، وبالتضافر مع مؤشرات ثقافية واجتماعية أخرى، علامة فارقة على حجم التغير الذي يعتمل داخل هذا المجتمع. ومن أهم المحفزات على هذا التغير هو حلم الفرد، وتوق الفرد، وطموحه لأن يثبت نفسه، ويحقق ذاته. أترك الآن مؤشرات وجود الليبرالية، لأنه موضوع يستحق معالجة خاصة به، وأنتقل إلى «الناقد الموشوم»، الذي أمضى السنتين الماضيتين يثير هذا الموضوع، على رغم قناعته بأنه موضوع غير ذي بال. أعني بذلك الكاتب السعودي عبدالله الغذامي. وأنا هنا أستعير منه كلمة «موشوم» التي يطلقها، وبإصرار واضح على الليبرالية. هل هو موشوم بالفعل؟ وماذا يعني ذلك؟ تقتضي الإجابة أن نتعرّف أولاً إلى معنى «الليبرالية الموشومة». والمعنى الذي يعطيه الغذامي لليبرالية أنها متناقضة. لماذا؟ لأنها «تحمل معنى ظاهرياً جميلاً أو محايداً ولكنها تنطوي على معنى آخر سلبي ومناقض للمحايد...». عندما تمعن النظر في هذا التعريف تتبدى لك بساطته المفرطة إلى حد السذاجة. وعلى رغم أن عبدالله آخر من يمكن وصفه بالسذاجة، إلا أنه لم يطرح على نفسه سؤالاً بسيطاً: هل يمكن أن يكون هناك فرد، أو جماعة، أو دولة، أو دين، أو تيار فكري يتصف بالحياد؟ كلمة «محايد» في هذا التعريف، تضمر أن الغذامي يأخذ على الليبرالية أنها ليست محايدة، وأنها لو لم تكن كذلك لأخذ بها. فاته أن ادعاء الحياد صفة من لا صفة له، وموقف من لا موقف له أو قضية. وهذا تحديداً هو مأزق الغذامي. وهو مأزق لأنه يتحدث بدافع مما يسميه في مكان آخر، وبسذاجة أيضاً، النسق المحرك للسلوك. والغريب أن هذا النسق الذي يقول به الغذامي يتبدى في سلوكه، وفي مواقفه هو بأكثر ما يتبدى لدى غيره. وإلا فهو يدرك، أو كان الأحرى به أن يدرك، الفرق بين الحياد، والاستقلالية. الاستقلالية موقف، وهو أكثر ما يكون مطلباً ملحاً في حالة المثقف. في حين أن الحياد ليس في الأغلب الأعم إلا إدعاء كاذباً، إما للهروب من موقف، أو للتغطية على موقف لا يراد له أن يظهر إلى العلن. هناك إشكالية أخطر من ذلك، في التعريف السابق، وهي الخلط بين «النموذج المثالي»، وبين الواقع. كل مصطلح، وكل حركة فكرية لها نموذج مثالي. لكن هذا النموذج ليس إلا آلية منهجية للقياس فقط، بهدف التعرف إلى طبيعة الواقع، ومدى قرب أو ابتعاد هذا الواقع عن النموذج. لم يحصل قط أن تطابق النموذج مع الواقع. هناك نموذج مثالي للإسلام، مثلاً، كما لليبرالية، والماركسية، والرأسمالية، ...الخ. وبما أن الغذامي يصف الليبرالية بأنها موشومة، لأنها لا تلتزم بنموذجها المثالي، فإنها وبالمنطق نفسه، صفة تنطبق على كل المفاهيم والحركات التي عرفتها البشرية. وهذا استنتاج يكشف حجم الخطل في تعريف الغذامي، ورؤيته، وما تنطوي عليه من بساطة منهجية مثيرة للدهشة. نعود إلى السؤال: هل الغذامي نفسه موشوم؟ وهو سؤال فرضه الغذامي نفسه، وذلك أنه أنكر أولاً أن هناك ليبرالية، أو ليبراليين في السعودية. ثم عاد وعدل في موقفه وأصبح يرى أن هناك ليبرالية، لكنها ضعيفة، ومهزوزة، وهشة، ولا قبل لها بما تدعيه. ومن أبرز المؤشرات على ذلك أن الليبراليين أنفسهم، كما يقول، لا يقبلون النقد، ولا يعترفون لمخالفيهم بحرية التعبير التي يرفعون رايتها. وهذه مثلبة لا شك في أنها، ومثالب أخرى، موجودة عند بعض من يتسمون بهذه التسمية. لكن السؤال: هل الليبراليون لا يقبلون النقد؟ أم إنهم يرفضون الإقصاء والتصفية؟ يعرف الغذامي أن أبرز وأهم خصوم التيار الليبرالي هم المتطرفون، وأصحاب الخطاب الديني الإقصائي. ماذا تنتظر من أي إنسان يواجه تهمة الكفر والإلحاد لمجرد أنه يقول برأي مختلف؟ هناك من اتهم الليبراليين بأنهم عملاء يذهبون إلى السفارات الأجنبية ليقبضوا مقابل عمالتهم؟ وهذا غيض من فيض، لكنه لا يهم الغذامي في كثير أو قليل. ليس لأنه يتفق مع التفكيريين، وإنما لأن قضية الحرية لم تكن يوماً من اهتماماته، أو شاغلاً من شواغله الفكرية والسياسية. ولتبرير هذا الموقف يلجأ إلى كلمة حق يراد بها باطل، عندما يقول «أنا مفكر حر، أنتقد وبس». لكن ماذا ينتقد؟ ولماذا «بس» هذه، أو فقط؟ لم ينتقد الغذامي يوماً الخطاب الديني على مدى مسيرته الثقافية التي تمتد إلى ما يقرب من عقود أربعة. وليته فعل ذلك عن قناعة، قناعة بأسس ومنطلقات الخطاب الديني، وإنما لحساسيات اجتماعية ودينية. وهذا موقف واضح في كل إنتاجه الأدبي، وما يعتبره نقداً ثقافياً، وهو موقف سياسي واضح. لكنه لا يجرؤ على إعلانه. وبما أنه يأخذ على الليبراليين رفضهم النقد، هل يتسم هو بأريحية قبول النقد؟ هو قال عن نفسه الأسبوع الماضي في برنامج «حديث الخليج» بأنه فشل في السيطرة على شيء واحد في شخصيته، وهو الغضب. أي أنه إنسان غضوب، وأهم سمات هذه الشخصية هو التضخم الذاتي، والغضب آلية طبيعية لحماية هذا التضخم. ومن يعرف الغذامي عن قرب يدرك هذا جيداً. ويبدو أنه غضب ممن انتقدوا محاضرته الأخيرة عن الليبرالية، وهم على الأقل خمسة، ولذلك تجاهلهم تماماً في مقالته الأسبوع الماضي عن الموضوع نفسه. وهو تجاهلهم على رغم أن نقدهم كان منهجياً راقياً، وساقوه بأسلوب يتسم بالكثير من الاحترام لشخص المنقود. والتجاهل صيغة أخرى من صيغ التعبير عن الغضب. قارن هذا مع الرثاء الحار والجميل الذي كتبه عن شاب ربطته به علاقة ثقافية عميقة، ثم أخذته المنية على حين غرة. ما يهمنا في هذا الرثاء هو قول الغذامي «كنت أبدأ بالقول ولا أضطر لإكماله لأن محمداً يلتقط الفكرة من رأسي وقبل أن تصل إلى لساني. وكنت أقول الكلمة والرأي وأطرح النظرية، لأجدها تتكامل على لسانه ...». بعبارة أخرى، كان الشاب نسخة أخرى من صاحب الرثاء، أو هكذا تصور الغذامي. وهذه قمة التضخم الذاتي، ومؤشر فاضح على منحى استبدادي، يثوي خلف عبارة ادعاء الفكر الحر. كيف يتسق هذا مع تأكيد الغذامي الذي لا يكل من ترديده، وهو أن «عملية النقد لا تستقيم... إذا الناقد لم يقبل أن يكون منقوداً، لأنه في هذه الحالة يتحول إلى سلطة أخرى قمعية غير قابلة للتساؤل...»؟ على رغم ذلك يأخذ على الثورة الفرنسية أنها رفعت شعار «لا حرية لأعداء الحرية». هل يدرك معنى اعتراضه هذا؟ للحديث بقية... * كاتب سعودي