نهاية الثمانينات أصدر كاتب عراقي - باسم مستعار - كتاب «جمهورية الخوف»، الذي يتناول حكم نظام البعث في العراق. الكاتب أخفى اسمه الحقيقي، خوفا من مخابرات نظام صدام حسين، الذي كان للتو خارجا من حرب الثماني سنوات مع إيران معتزا بانتصار متوهم. وبعد شهور من صدور الكتاب، غزا صدام حسين الكويت، وتعرض نظامه الراديكالي لضربة على يد القوات الدولية، ولكن عوضا عن إقصاء الزعيم الديكتاتوري بالقوة توقفت الجهود الدولية عند قبول الانسحاب وفرض عقوبات دولية. أعاد كنعان مكية إصدار كتابه المهم، ولكن هذه المرة باسمه الحقيقي في 1998، حينما كانت الإدارتان الأميركية والبريطانية تدرسان فكرة الرد العسكري على تجاوزات نظام صدام حسين. لم تحدث الحرب، ولكن بعد خمسة أعوام قررت إدارة الرئيس بوش الابن إكمال المهمة، وغزو العراق لإسقاط صدام حسين. بيد أن الغزو تحول مع الوقت إلى واحدة من أكثر المراحل دموية في تاريخ العراق، إذ اندلعت حرب طائفية، عرقية، واستخباراتية غير مسبوقة في بلد كان يحكم بقبضة حديدية طوال أربعة عقود ونيف. خلال السنوات الماضية انطلقت مجموعات القتل، والاغتيال، والتفجير في كل مكان، بحيث أصبح العراق جمهورية خوف، ربما فاقت نظام صدام حسين. في الثمانينات، كان النظام يحكم باختفاء أي فرد معارض، وتختفي معه عائلته وحيه في حال فر من قبضة الأمن. اليوم، يختفي المدنيون الأبرياء بلا مبررات، أو يموتون في تفجيرات جماعية ليس لها نظير في التاريخ. صحيح، أن العمليات الانتحارية تحدث في بلدان غربية وعربية وإسلامية، ولكن ما يحدث في العراق شيء جنوني لا يتوقف. الأسبوع الماضي أقدمت مجموعة إرهابية على مذبحة بحق المسيحيين العراقيين، وقبل أن تجف دماء أولئك الأبرياء انفجرت القنابل بين مدنيين في أحياء من الغالبية الشيعية. الأخبار محزنة ومرهقة، وإذا ما نظرت إلى عدد من دول المنطقة لوجدت أن حجم تمدد الجماعات الإرهابية في كل بلد عربي وإسلامي يتجاوز الخيال إلى الحد الذي تستغرب معه تصريحات أي مسؤول عربي يشكك في دور التطرف الديني الإسلامي، أو ينسب ما يحدث لمحاولات خارجية، كما حدث في اليمن مؤخرا. في الستينات وحتى نهاية الثمانينات، كان المثقفون والكتاب العرب والغربيون يعتقدون أن مشكلة المنطقة مع الإرهاب والعنف هي بسبب من قياداتها وبعض أنظمتها الحاكمة، وأنها - أي الأنظمة العربية - لو كانت عادلة، وسلمية، وتحكم عبر القنوات الديمقراطية لما تحولت إلى جمهوريات خوف وقمع. هذه القراءة صحيحة – نسبيا - ولكنها ناقصة، لأن النموذج العراقي أثبت أن المشكلة لم تكن غياب الديمقراطية بقدر ما هو مرض حقيقي داخل تلك المجتمعات يسمح بتحولها إلى العنف المدمر. هناك أزمة هوية، ودين، وقيم متأصلة في تلك المجتمعات، وبغير مواجهة تلك الأزمات لا يمكن الخروج من هذه الدائرة المغلقة من العنف الجنوني. الساسة في منطقتنا لا يريدون مواجهة هذه الحقيقة، إما لأنهم لا يريدون دفع التكلفة الخطرة للإقرار بها وتصحيحها، أو لأنهم أيضا غير قادرين على استيعابها، لأن وعيهم بالعالم نتاج وعي مجتمعاتهم. من يستطيع أن يواجه مجتمعه ليقول لهم إن الهوية التي يحملونها غير متسقة مع العالم الحديث، أو أن يعترف لهم بأن مفهومهم للدين وطريقة ممارستهم له تفضي بالضرورة إلى التطرف والعنف، أو أن قيمهم التي يفتخرون بها هي في حقيقتها تقف حاجزا ضد تقبلهم لقيم معاصرة أساسية، مثل المبادئ العالمية لحقوق الإنسان؟ لطالما جادل مثقفو اليسار بأن نظاما مثل الجمهورية الإسلامية يفوق الأنظمة العربية المجاورة بسبب قيام الانتخابات الدورية فيه، ووجود مؤسسات شعبية تمثيلية، ولكن الواقع يكشف أن إيران لا تختلف عن غيرها من الأنظمة، حتى النظام العراقي السابق. في مقالة له بعنوان «إيران: جمهورية الخوف»، يقول الباحث الإيراني مهدي خلاجي - «الغارديان»، 21 يناير (كانون الثاني) 2010 - «يحكم نظام الملالي في إيران بالاستعانة بصيغة بسيطة: الفوز للأقدر على إثارة أعظم قدر من الخوف. إن (تحقيق النصر ببث الخوف) عبارة مجازية كثيرا ما نسمعها في الكثير من خطب المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي. والواقع أن هذه العبارة تشكل دليلا موثوقا به للتعرف على فلسفته السياسية». خلاجي محق، فبعض أنظمة المنطقة تحكم وفق معادلة الخوف، ولعلنا نضيف أن التنظيمات والجماعات المتطرفة باتت تتبع سياسة مقاربة، ولكن أكثر إجراما، وهو إثارة الخوف كهدف أساسي. الأنظمة القمعية تستخدم الخوف كسلاح لضبط أمن النظام، ولكن الجماعات المتطرفة إسلاميا تستخدم الإرهاب لتثبت وجودها وكطريقة خلاص لأرواح أتباعها المرضى. بيد أن ما هو مهم الإقرار به، هو أن الأزمة ليست أزمة أنظمة حكم فقط، بل هي أزمة مجتمعات في الأساس. في تحليله المميز للثورة الإيرانية، يشير سعيد آرجومند إلى أن الثورة الإيرانية لم تكن ثورة أفكار - على الطريقة الفرنسية أو الأميركية - بل كانت احتجاجا شعبيا لأسباب مختلفة ومتناقضة، وأنه كان بالإمكان إخمادها لولا مرض وضعف الشاه، بل ورفضه مواجهتها بالقوة. آرجومند يؤكد أن سقوط الشاه قاد إلى وصول القوى الثورية للحكم، وحل مؤسسات الجيش ومؤسسات الدولة، وبعد صراع بين تلك الفئات التي قادت المظاهرات والعنف انتصر الملالي بالقوة وعبر سياسة التخويف الديني والدنيوي. الشعب - كما يقول آرجومند - كان في حالة ارتباك وتشتت، لم يكن يعرف ماذا يريد (العمامة مقابل التاج - 1988). حالة التشتت والضياع هذه رصدها كنعان مكية في تعليقه على الوضع العراقي الراهن، خلال لقائه مع «الشرق الأوسط» - 18 مارس (آذار) - «نحن لم نحل هذه المشكلة، وأنا لا أتحدث عن جيلنا أو جيلكم أو جيل والدي، بل عن الجيل الحالي الذي يتحرك على الساحة العراقية وعن الشريحة السياسية بكاملها التي ظهرت بعد 2003، وتعتبر طبقة جديدة في أرض السياسة العراقية، حيث أزيحت طبقة وجاءت طبقة جديدة، وجوه وأسماء شخصيات جديدة، هناك استثناءات، القاسم المشترك بينها هو أنهم لا يعرفون ماذا يريدون، غير واثقين من أنفسهم». مجتمعات المنطقة تعيش الحالة ذاتها، فهي لا تدري ماذا تريد.. وتغشاها حالة من التشتت والضياع، ومن الطبيعي أن صراع الهوية، والدين، والقيم يقود في النهاية إلى الاصطدام الحاد. هناك أنظمة خوف، ومجتمعات خوف، وأفراد خائفون ومخيفون. حتى التاريخ والتراث الذي يتم الالتجاء إليه قائم على الخوف والتخويف. وبعد كل هذا يتساءل البعض: من أين يأتي هؤلاء بكل هذا القدر من الخوف المدمر؟!