يبدأ كتاب البروفسور قاسم حسين صالح، المحلل النفسي وأكثر العلماء العراقيين حضورا بعد العلامة علي الوردي، بطريقة رمزية فيستهله بكابوس شخصي بعد وقوع الاحتلال يحاور فيه جده الراوي العارف الكلي بالأمور والأحداث التي حلت بالعراق طيلة تاريخه حتى لحظة سقوط الديكتاتور. تلي ذلك رسالة موجهة إلى رئيس الجمهورية يطلب فيها منه أن يمنح فريقه العلمي فرصة لمعاينة الطاغية من اجل التعرف إلى طبيعته النفسية الشاذة: «وبما أنه أصبح الآن في عهدة الحكومة العراقية، فأننا نرجو شخصكم الكريم إتاحة الفرصة لاختصاصيين من جمعيتنا لمقابلة صدام حسين، يتفحصون بشكل مباشر المحددات النفسية لهذه الشخصية التي تمثل ظاهرة عراقية وعربية وعالمية في ميدان سيكولوجية السلطة والحاكم. ولأن الوقوف على أسباب تكّون هذه الظاهرة فيه عبرة للعراقيين بشكل خاص، وللحكام العرب وشعوب العالم الثالث بشكل عام. فضلا عن أن لدينا اعتقادا يتاخم اليقين بأن علماء النفس الأميركان يعكفون على نشر كتاب حول شخصية صدام حسين، وأنهم قد لا يكونون موضوعيين في ما يكتبون، وقد يسيئون للشخصية العراقية من خلاله». وبمنهجية المحلل العارف، يحدد الباحث طبيعة العلل والطرق الناجعة في معالجتها، مستخدما لغة علمية واضحة للغاية لكي تكون بمتناول الجميع مع الاستشهاد بالشعر فصيحه وعاميه والموروث الشعبي العراقي. والمهم في هذا التحليل ليس صرامته العلمية فحسب، بل تحرره من عقدة الخوف التي كانت تلجم أفواه العراقيين عن التعبير، والإشارة إلى موضع الفساد في سلوك القادة الجدد الذين جاؤوا مع الاحتلال. لقد قضى الباحث أكثر من ربع قرن في تدريس مادتي تحليل الشخصية والاضطرابات النفسية، وقام بتحليل شخصيات مجرمين، فوجد ان النظريات المألوفة لا تنطبق على سلوك الشخصية المعاصرة بخصوص «العنف»، وعليه وضعها جانبا وراح يجتهد في إيجاد تفسير لهذا السؤال: لماذا يكون العنف في الشخصية العراقية بهذه القسوة والبشاعة؟ وقد وجد أن إحدى الصفات الغالبة في الشخصية العراقية ان «الموقف» يتحكم بالشخصية أكثر من العقل، وأنها تتصرف بأسلوبين متطرفين ومتناقضين، وكأن في داخلها «ملاكاً» وأيضاً «وحشاً» لأوقات الأزمات. والأمر لا يتعلق بالتركيبة الوراثية، إذ «جينات» العراقي لا تختلف عن «جينات» باقي البشر، ولا بالمناخ أو الطبيعة، إنما بطبيعة «الصراع» على السلطة، الذي بسببه تعرض الفرد العراقي لاضطهاد وقسوة يفوقان ما تعرض له البشر الآخرون. فتاريخ العراق تاريخ العنف والدم والأهوال، ليس منذ بدء المشهد الكربلائي فحسب، بل بالرجوع الى تاريخ ضارب في القدم. فالمجتمع العراقي يكاد ان يكون الوحيد بين مجتمعات العالم الذي خبر العنف لزمن يمتد آلاف السنين. ثم يورد الباحث عددا من الحوادث التي مرت بالعراق منذ بداية القرن العشرين كأمثلة وشواهد: 1- قتل الملك فيصل الثاني صبيحة 14 تموز (يوليو) 1958، وقطع أيدي الوصي وآخرين حيث طاف بها الناس في شوارع بغداد. 2- في 1959، قُتل وسحل بالحبال، وعلّق على المشانق، أشخاص في الموصل وكركوك. 3- مقتل عبد الكريم قاسم في شباط (فبراير) 1963، وشيّ سكرتير الحزب الشيوعي بالنار في الشهر نفسه مع عدد من أعضاء الحزب وهم أحياء. 4- عقب هزيمة الجيش العراقي في الكويت عام 1991، وصل العنف بالعراقيين أنهم وضعوا إطارات السيارات في رقاب عناصر من البعثيين وأحرقوهم أحياء. 5- بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية في 1988 أبيد أكثر من مائة وثمانين ألف كردي في الأنفال، وأحرقت آلاف القرى الكردية، فضلا عن مجزرة حلبجة المعروفة. 6- في 2003 اكتشفت العشرات من المقابر الجماعية تضم رفات الآلاف، بينهم نساء وأطفال دفنوا أحياء. وتبين أن النظام السابق استعمل العنف في التعذيب حتى مع من كان موضع شبهة، كوضع الشخص وهو حي في الأحماض التي تذيب اللحم والعظم، والكي والحرق وتقطيع الأعضاء. ويخطئ من يرى أن هذا التفنن في العنف كان من مبتكرات النظام السابق، فهو إرث سيكولوجي تراكم منذ السومريين. لكن العنف الحديث والحالي تقف وراءه خمسة أسباب: الأول تعرض الفرد ل»الإحباط اليائس»، أي منعه من إشباع حاجات يراها مشروعة، مصحوبة بمشاعر الحرمان النفسي وبخاصة عندما يدرك أنه أو جماعته يحصلان على أقل من استحقاقهما. والثاني أن اللاشعور الجمعي للمجتمع له دور فاعل في تحديد سلوكه الجمعي. وبما أن لاشعور العراقيين الجمعي معبأ بالعنف ومبرمج من ألف عام على تشغيله في حل الصراعات، ومشحون بالثأر والحقد، فالعراقي يستحضر هذا الانفعال، لاشعورياً، في حل أزماته المعاصرة. والثالث أن السلطة كانت بيد السنّة من ألف عام فيما الشيعة في المعارضة، وما حصل الآن تبادل للأدوار شبيه من حيث فعله النفسي بتبادل دوري السيد والعبد، والعنف لا بد أن يحصل في المجتمع المتعدد الطوائف والأعراق إذا انفردت بالسلطة طائفة أو قومية بعينها. ورابعها أن وجود الأجنبي في أي وطن كان وبأي مسمّى (محتل، محرر...) يثير في ابن الوطن الإحساس بالذلّ والإهانة، ويستنهض فيه، بحتمية نفسية، مشاعر الكرامة وردّ الاعتبار فتدفعه إلى العنف ليس فقط ضد المحتل بل ضد من يعمل معه أيضاً. وخامسها، هو الافتقار إلى الاجماعات الوطنية العابرة للمذاهب، فمن دونها تتأجج أسباب العنف وينفجر في حرب أهلية لا يعوزها سوى الإعلان عنها. وثمة مسألة يوجز المحلل الإشارة إليها هي أن المجتمع العراقي الحالي فيه شخصيتان عراقيتان لا شخصية واحدة. الأولى، شخصية آبائنا التي كنا نفاخر بقيمها الأصيلة (الشرف، الإيثار، النخوة...) وهذه في طريقها إلى الاندثار. والثانية، يمثلها جيل بعمر الثلاثينات فما دون ولد ونشأ في الحروب والكوارث. ومعروف أن الحرب لا تدمر فقط البنى التحتية والفوقية، إنما البنى القيمية للإنسان. ودائماً تتعدد الأسباب وعنف العراق واحد. * شاعر عراقي مقيم في هولندا.