القضية الأبرز على الساحة السعودية هذه الأيام هي حكاية قاض في المدينةالمنورة متهم بتسهيل قضية فساد كبرى وتمريرها بمئات الملايين من الريالات، حيث لم يجد هذا القاضي من وسيلة للدفاع عن نفسه أمام اتهامات المباحث الإدارية سوى الادعاء بأنه مسحور، وأنه كان يوقع الأوراق والصكوك وهو تحت تأثير السحر الأسود! هل تظنون أن هذا الخبر غريب ومثير للضحك؟ حسنا يؤسفني أن أقول لكم إن هذا هو الجزء المعقول من الحكاية؛ لأن تتمتها لا تخطر على بال بشر! فقد ظهر أحد الرقاة الشرعيين في صحيفة عكاظ وأكد أنه استنطق الجني الذي يسكن داخل القاضي المتهم بالفساد بحضور أعضاء من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووثق هذه الأقوال في المحكمة، فأي القاضيين أكثر غرابة من وجهة نظركم: القاضي الذي سهل نهب الأراضي والعقارات ثم ادعى أنه مسحور أم زميله الذي وثق أقوال الجني في مضابط رسمية؟! نحن اليوم أمام مأساة حقيقية، ففي الوقت الذي يتجه فيه العالم أجمع نحو الاستفادة من تطبيقات العالم الافتراضي نتجه نحن بكل حماسة باتجاه منح الخرافات بعدا مؤسسيا وتحويلها إلى جزء لا يتجزأ من الأمر الواقع، فبعد المساعي الحثيثة لافتتاح أقسام للرقية الشرعية في مستشفيات تخصصية ذائعة الصيت تم الإعلان أخيرا عن افتتاح أكاديمية متخصصة في تفسير الأحلام!! وما إن حاولنا استيعاب الصدمتين حتى ظهرت حكاية استنطاق الجن في قضايا الفساد واعتماد أقوالهم في محاضر رسمية. وبالطبع فإن مقاومة هذه الخزعبلات تعني دخول الإنسان تلقائيا في معركة بين الكفر والإيمان، حيث تتهافت الأسئلة المجانية: هل تنكر وجود الجن؟ ألم يذكر السحر في القرآن؟ ألا تؤمن بأن الرؤيا حق؟ تحاول أن تستوعب كل الأسئلة المتهافتة كي تطرح سؤالا واحدا فقط: إذا كان القاضي المسحور شارك بكل تلك العمليات الفاسدة وهو تحت تأثير السحر فما الحاجة إذن لإشراكه في الغلة الكبيرة مادام يعمل مجانا تحت إدارة الجني؟! الحكاية كلها مهزلة كبرى لا يقبلها العقل، فلو أخذنا تصريحات الراقي الشرعي على محمل الجد لطالبنا المحكمة بأن تتوقف عن التعامل مع الجني باعتباره شاهدا وأن توجه له الاتهام باعتباره العضو رقم 13 في عصابة المدينةالمنورة! بل لأصبحت هناك ضرورة قانونية للتأكد من حسابات الجني البنكية في العالم السفلي مثلما تم الكشف عن 100 مليون ريال في حساب أحد المتهمين الهاربين إلى الخارج! اللهم يا رب الأنس والجن ارحمنا برحمتك، فنحن أعجز من أن نواجه الفاسدين من بني البشر فكيف لنا أن نواجه الفاسدين من الجن؟!