رأى أستاذنا الدكتور محمد الهرفي أن تطوير الجهاز القضائي يحتاج لما هو أكثر من إدخال التعاملات الالكترونية (عكاظ 16 أكتوبر). يشكل التعامل الالكتروني جزءا حيويا من عملية التطوير. لكن يبدو أن معظمنا يفكر فيه كوسيلة لتوفير الوقت والجهد البشري. في بلدان العالم الأخرى يهتمون بالتعامل الالكتروني لاختصار التدخل الشخصي، وتوحيد نسق المعاملات، بحيث يحصل جميع المتعاملين على فرص متساوية ويتحملون أعباء متماثلة. هذه النقطة بالذات تقوم على فلسفة مختلفة عن تلك التي تتعلق بالسرعة وتوفير المال، ويمكن تلخيصها في نقطتين: 1) سيادة القانون ، 2) الانتقال من مفهوم السلطة الرسمية إلى مفهوم الخدمة العامة. نظريا يعمل جميع موظفي الدولة وفقا للوائح قانونية صدرت حسب الأصول، وهم نظريا أيضا يملكون سلطة محددة في نطاق عملهم، غير قابلة للتمديد إلى خارجه. لكن من الناحية الواقعية فإن كثيرا من الموظفين يعملون طبقا لتقديراتهم الخاصة أو طبقا لتوجيهات شفهية أو تحريرية تصلهم من رؤسائهم. ولعل جميع الذين راجعوا دوائر حكومية قد سمعوا أو قرؤوا عبارة «طلبنا التوجيه» أو «ننتظر التوجيه» أو «ما هو التوجيه» وأمثالها. والمقصود بالتوجيه هو الرأي الشخصي للمسؤول الأعلى مرتبة. إذا أخذنا بمبدأ «سيادة القانون» فإن الموظف الأدنى مرتبة مثل الأعلى مرتبة مكلف بتطبيق نص القانون أو فحواه، وليس له حق الاجتهاد أو التفسير أو التمييز بين معاملة وأخرى. ليس عليه أكثر من مطالبة المراجع بإثبات التوافق بين مطالبه وبين مادة قانونية معينة، كي ينهي المعاملة دون رجوع إلى رئيسه. ويقال الأمر نفسه في القضايا التي ترتبط بأكثر من جهة رسمية. لو أخذنا نموذجا من أعمال المحاكم مثل إثبات الملك (في الأراضي التي ليس لها سجلات سابقة على سبيل المثال) سوف نجد أن المحكمة تضع اشتراطات على المراجعين هي جميعا خارج نطاق سلطاتها، مثل تعطيل المعاملة بانتظار موافقة البلدية ووزارة الزراعة والمالية وأحيانا الدفاع، ويضاف إليها شركة أرامكو في المنطقة الشرقية. إرسال المعاملات إلى هذه الجهات وانتظار جوابها يتطلب في حده الأدنى أربعة أشهر وقد يأخذ عاما أو أكثر إذا لم يكن لديها اعتراض. أما إذا كان لدى أي منها اعتراض، فعلى المراجع أن يطارد وراء معاملته سنتين أو ثلاثا أو أكثر. وأعرف معاملات تعطلت لدى البلدية أكثر من خمسة أعوام. الأصل في الموضوع أن ترسل المحكمة خبرا إلى أي جهة تريد، فمن يريد الاعتراض فعليه أن يقوم بذلك بالطريقة الأصولية، أي تقديم الأدلة على صحة اعتراضه. لكن ما يحصل الآن هو أن دعاوى تلك الجهات تعامل كما لو أنها أحكام قطعية. بعبارة أخرى تعمل المحكمة كمحام لبقية الدوائر الحكومية، والأصل أنها محام للمواطن (وهو الطرف الضعيف في القصة كلها). وحتى لو قلنا بأن دور المحكمة هو إعطاء كل ذي حق حقه، فإن اشتراط موافقة الجهات الحكومية يعني ضمنا منحها أفضلية على المواطن.. تطوير مرفق القضاء وغيره من الأجهزة الحكومية لا يتوقف على تسريع عملها من خلال التعاملات الإلكترونية، بل يتطلب تغييرا جوهريا في فلسفة العمل باتجاهين، أولهما: اختصار التدخلات الشخصية وما يسمى بالتوجيهات وتطبيق نصوص القانون دون تفسيراته. وثانيهما : أن يعمل القضاء وسائر الدوائر باعتبارها أجهزة لخدمة المواطن. فخدمة المواطن يعني أن تقف في صفه دائما، وأن تجعل هدفك إيصاله إلى حقه، فإذا اعترض الآخرون فليسلكوا نفس السبيل، أي المطالبة بما يرونه حقا لهم بالطرق القانونية، لا أن تعتبر ادعاءاتهم وآراءهم حقا ثابتا.