مشاري الذايدي نقلا عن (الشرق الأوسط) اللندنية أمسى الموضوع الديني ملتهبا في العالم كله، ليس في العالم الإسلامي فقط، وصار الإيقاع الزمني لتفجر الأزمات الدينية أكثر تسارعا من ذي قبل. فهل هو فعلا «قرن الأديان» كما تنبأ رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير ذات مرة؟! آخر هذه الأزمات، وبعد أن أوشك غبار أزمة القس الأميركي تير جونز أن يخمد، كانت تصريحات منسوبة لأحد قيادات الكنيسة القبطية المصرية، الأنبا بيشوي حول القرآن، وهي التصريحات التي عاد رجل الدين المسيحي هذا فنفى ما فهم أنه إساءة للإسلام والمسلمين، خصوصا بعد أن خرج رأس الكنيسة القبطية وبطريرك الكرازة المرقسية الأنبا شنودة بنفسه على التلفزيون المصري متحدثا بألطف خطاب للمسلمين المصريين والمسلمين عامة، وعبر عن «الأسف» لجرح مشاعر المسلمين بسبب تصريحات الأنبا بيشوي. وقال في مقابلة مع التلفزيون المصري الحكومي: «أنا آسف جدا أن يحصل جرح لشعور إخواننا المسلمين» وأعرب عن استعداده «لترضيتهم بأي طريقة». وأضاف أن: «الحوار الديني يجب أن يكون في النقاط المشتركة في المساحة المشتركة». وأكد البابا شنودة أيضا أن «مناقشة المعتقدات الدينية خط أحمر يجب عدم تجاوزه». في المقابل كانت تصريحات شيخ الأزهر أحمد الطيب التي رفض فيها التعليقات المنسوبة للأنبا بيشوي، على حزمها وصرامتها من رمز المؤسسة الدينية الإسلامية الأول في مصر، تحمل قدرا من الإحساس بالمسؤولية والبعد عن التأجيج، والتنبيه على أنه لا يجوز في ظل هذا التوتر العام أن يصب الزيت على النار ويحدث شرخ عميق في الوحدة الوطنية باعتبار أننا: «في وقت نحن اشد ما نكون في حاجة لصيانتها». حسب تعبير شيخ الأزهر. لنتذكر أنه قبل أيام فقط اشتعل الإعلام الخليجي بتصريحات شاب شيعي معمم هاجم فيها العقائد السنية، الأمر الذي أدى إلى إصدار الدولة في الكويت أمرا بحظر التجمعات «الخطابية» المضادة، بالتوازي مع سحب الجنسية الكويتية من هذا المعمم الشيعي المتوتر ياسر الحبيب. وقبل ذلك ثارت فتنة بسبب ما نسبته إحدى القنوات الفضائية الحريصة على برامج العراك السني الشيعي «تحت اسم الحوار» إلى مرجع الشيعة الأشهر السيد علي السيستاني من تكفير لأهل السنة، الأمر الذي جعل مكتب المرجع الشهير يصدر بيانا صريحا ينفي فيه هذا الكلام ويؤكد على أن أهل السنة من جماعة الإسلام. وقبل ذلك كانت تصريحات الخطيب والواعظ السعودي محمد العريفي التي هاجم فيه السيستاني دينيا، وهو ما أحدث غليانا سياسيا في العراق وغيره، خصوصا أن هذا الهجوم تزامن مع موسم انتخابي طائفي بامتياز، وانتقد العريفي من انتقده من عقلاء السنة وناصره من ناصره من الخطباء والوعاظ. الأمر لم يقتصر على التراشق الطائفي داخل الإطار الإسلامي، بل كلنا نتذكر الأزمة الدينية الكبرى التي أحدثها البابا بنديكتوس السادس عشر في محاضرة بإحدى الجامعات الألمانية في سبتمبر (أيلول) 2006 حيث أورد اقتباسا من القرون الوسطى استفز المسلمين بسبب تهجمه على تاريخ المسلمين، الأمر الذي جعل البابا يسارع للتوضيح والتراجع لاحقا بأنه أورد الاقتباس لا على سبيل الاقتناع به. البابا انتقد من قبل كبار الرموز الدينية والسياسية في العالم الإسلامي حيث وجه له شيخ الأزهر، حينها، الشيخ طنطاوي انتقادات حادة. ونقلت وكالة رويترز أن شيخ الأزهر أوضح خلال لقاء مع ممثل الكنيسة الكاثوليكية في القاهرة أن البابا «سكت دهرا ونطق كفرا». ولم يتخلف مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي عن نقد بابا الفاتيكان على محاضرته تلك. وغيرهما كثير من الرموز السياسية والدينية في العالم الإسلامي. هذه محطات سريعة ضمن السنوات الأخيرة فقط وصولا إلى هذا الأسبوع، تبين لنا مدى الأزمة التي تنتظرنا في ظل انقطاع سبل الحوار بين الثقافات، المشكلة هنا معقدة، فأي معتقد ديني ينظر لنفسه على أنه هو الحق المطلق، وغيره الباطل، وهنا تصبح الأزمة خطيرة وعميقة وبلا نهاية إذا اصطدمت الأديان ببعضها، لذلك كان الحل هو بأن يحتفظ كل دين بما لديه «لكم دينكم ولي دين»، والأمر في النهاية غير قابل ل«الحسم» في هذه الحياة، ولا يظل إلا البحث عن النقاط المشتركة والمناطق التي يمكن الوقوف عليها سوية - وهذا هو «جوهر» مشروع حوار الأديان والثقافات - عوض صدامها الذي يمكن أن يبدأ على شكل تصريحات ثم حروب، وقديما قال الشاعر: فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب مبدؤها كلام! ومن هنا ننطلق لنسأل: ماذا يعني كلام شيخ الأزهر عن أنه لا يجوز إثارة الفتنة وشرخ الوطنية، أو كلام بابا الأقباط عن أن الكلام في الأديان خط احمر؟ يعني أن الوطن هو الإطار الجامع لكل مكونات الشعب، وعليه فهو الأساس الذي يقف عليه الجميع، والهوية المشتركة، إنه موقف يعيد لنا التذكير بموقف رواد النهضة العربية المدنية: «الدين لله والوطن للجميع»، وهو الشعار الذي ظل كثير من منتجي الخطاب الأصولي يهاجمونه ويقبحونه، وظل كثير من الجمهور العربي يرحب بهذا الهجوم، حتى أفقنا على مشاريع فتن دينية وطائفية تحرق الأخضر واليابس، وتنذر بالمزيد. ماذا ننتظر أكثر حتى نعرف أن المواطنة هي الأساس الذي يبنى عليه، وهي المعيار الذي يجب أن يكون عروة بين الحاكم والمحكوم، وبين شرائح الشعب كلها، لأنه بغير ذلك نكون أمام دورات، متباعدة أو متقاربة، حسب الظروف، لهزات اجتماعية وفتن أهلية بين أصحاب الملل والنحل. وكلنا نشاهد بأم العين دخان الحروب الطائفية أمامنا. إن عودة الإثارة الطائفية والدينية بهذا العنفوان دليل واضح على فشل المشاريع الوطنية في العالم العربي، وإخفاق «غالب» المجتمعات والدول العربية والمسلمة في العبور إلى بر الراحة والقطيعة مع فكر الحروب الدينية والطائفية التي عانت منها أوروبا كثيرا وسالت أنهار من الدماء على مذبح الحروب بين الكاثوليك والبروتستانت، يعرف ذلك أدنى مطالع للتاريخ الغربي. حتى عندنا؛ نعرف كيف استنزفت هذه الصراعات طاقات عالمنا الإسلامي والعربي في الغابر والحاضر. التبشير بالهوية الوطنية والوعي المدني ليس مجرد خطب ومحاضرات، وأخشى أنه ليس مجرد قرارات وخطط ومشاريع من حكام، حتى ولو كانوا صادقين في ذلك، أخشى أن الوصول إلى الوعي بفكرة المواطنة والعلاقة التعاقدية مع الدولة هو «سيرورة» اجتماعية وتاريخية حتمية قد تتعمد بالكثير من الشقاء والعناء، فلا ينال عسل النحل إلا بعد وخز إبرها.. بكل حال، ليست هذه إلا خشية، وليس «حتما» بالضرورة أن نعيد اختراع العجلة، ونعاني كما عانى غيرنا حتى ندرك أنه لا مناص من جعل المواطنة هي أساس العلاقة الأفقية والعمودية، أي بين أفراد المجتمع أنفسهم، وبينهم وبين الدولة. حتى هذا الحين، يستحسن كثيرا أن يتمتع عقلاء وحكماء الديانات في العالم بكثير من الأناة، وينتبهوا بشكل بالغ إلى ما ينطقون به، فإن الكلمات، خصوصا منهم، تشعل نارا، أو تورق أشجارا..