انتزع الرئيس الإيرانيّ محمود أحمدي نجاد من العقيد الليبيّ معمّر القذّافي قصب السبق في غرابة الكلام، ماضياً في المنافسة معه على غرابة الأطوار. لكنّ الرئيس الإيرانيّ يختلف عن الزعيم الليبيّ في أنّ الأخير عديم التماسك، يأتي من كلّ وادٍ بعصا، فيما تتألّف من ترّهات الأوّل منظومة متجانسة تنمّ عن «نهج» في التفكير، كما ينبثق منها «دليل عمل» للنضال السياسيّ. وبما يتناسب مع آراء له سابقة في المحرقة النازيّة، وفي تغيير الخرائط، أتحفنا، في الأمم المتّحدة، بآخر نظريّاته عن جريمة 11 أيلول (سبتمبر) 2001، فإذا هي من صنع المؤامرة الأميركيّة الشهيرة إيّاها، ولخدمة الغرض الشهير إيّاه الذي هو دعم إسرائيل. قيل هذا الكلام في المدينة المنكوبة نفسها، نيويورك، ومن منصّة غير بعيدة عن مسرح الجريمة. لكنّ نقص الحساسيّة الذي ينطوي عليه كلام كهذا لا تنافسه إلاّ ثقة بالذات تحمل صاحبها على إشهار سخافاته على مرأى العالم أجمع ومسمعه، مترجمةً بلغات الأرض جميعاً. بيد أنّ تماسك الموقف النجاديّ يتّضح خصوصاً حين نجمع كلامه المذكور إلى كلامه عن «الرأسماليّة» التي دانها وأعلن سقوطها، داعياً إلى عالم يديره، ويدير اقتصادَه، أناس أفاضل «كمثل الأنبياء». فهنا تتمدّد النزعة المهدويّة والألفيّة، التي لا تكفّ عن إعلان البدايات والنهايات، إلى الحيّز الاجتماعيّ. غير أنّها، وهي تفعل هذا، تقدّم مصغّراً كاريكاتوريّاً عن مزاج شعبويّ سائد اليوم في «العالم الثالث» وعلى هوامش البلدان المتقدّمة. ف «الرأسماليّة»، وأيّ همّ اجتماعيّ آخر، فقدا، لدى هذه الأوساط، كلّ أهميّة بذاتهما، ليقتصرا على توفير حجّة أخرى في معرض السجال «السياسيّ» مع «الغرب» الذي قد يكون «إمبرياليّاً» مرّة و «شيطاناً أكبر» مرّة أخرى. وهذا بعدما صرف كارل ماركس أكثر من نصف عمره وهو يقول إنّ «الصراع الطبقيّ محرّك التاريخ»، ويؤكّد أنّ الرأسماليّة ستسقط بفعل تناقضاتها الاقتصاديّة الذاتيّة. أمّا ورثة الرأسماليّة، في عرف المفكّر الألمانيّ الكبير، فليسوا من «الأفاضل» الذين يشبهون الأنبياء، بل هم... الطبقة العاملة. ومعروف أنّ الذين أسموا أنفسهم ممثّلين للطبقة العاملة في إيران قد عرّضهم النظام الخمينيّ لسحق استئصاليّ جعل قمع الشاه لهم أقرب إلى دمى الأطفال. وفي السياق هذا جيء بكيانوري، الزعيم الشيوعيّ الإيرانيّ المسنّ، ليبكي على شاشة التلفزيون معتذراً سائلاً الصفح والمسامحة. وفي موازاة تمدّد النظام الإيرانيّ إلى الخارج، قضى بأبشع الطرق سياسيّون ومثقّفون لبنانيّون رسموا أنفسهم، هم أيضاً، ممثّلين للطبقة العاملة في بلدهم. والناظر اليوم في تعاطف اليسار مع أحمدي نجاد لا يسعه إلاّ أن يلاحظ انخفاض اهتمام ذاك اليسار، لا بالمسألة الاجتماعيّة وحدها، بل بالعقل أيضاً، وهذا علماً بأنّ اليسار، كائناً ما كان تأويله، لم يكفّ عن توكيد صلته بالعقل والتنوير! وقريباً سوف يزورنا في لبنان رئيس إيران الذي يطعن إيرانيّون كثيرون بشرعيّة انتخابه، وسوف يعزف على مسامعنا بعض ألحانه الغرائبيّة، وسوف يلقى بين مُستقبليه «ممثّلين للطبقة العاملة» لا يضيرهم، في لحظات تعبهم من هذا التمثيل، أن يتقدّموا كأفاضل يشبهون الأنبياء. أمّا الميل المازوشيّ الذي يستقي اللذّة من الألم، فسوف يحمل أصحابه، بعد ما ذاقوه من ركل وضرب وقتل بالسكّاكين والعبوات، في إيران وفي لبنان، على المطالبة ب «حقّ» إيران في امتلاك سلاح نوويّ. آهٍ ما أجمل الموت بالذرّة المناهضة لأميركا.