لعل الكثيرين سمعوا بالمقابلة المثيرة التي أعطاها الزعيم الكوبي المتقاعد فيدل كاسترو لمجلة «أتلانتك» 8 سبتمبر (أيلول)، حيث قال: إن «النموذج الكوبي لم يعد ناجحا حتى بالنسبة لنا»، ووجه كذلك رسالة إلى الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بأن يتوقف عن كراهية اليهود وإنكار المحرقة، وعلق على أزمة الصواريخ الكوبية التي كادت بسببها تقوم حرب نووية بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي بأنها «لم تكن تستحق» التضحية. هل هي اعترافات نهاية العمر، حيث يواجه الرجل العجوز قرب نهايته؟ ربما.. بيد أن اللافت أن تلك الاعترافات لم تزعج كاسترو نفسه، بقدر ما أزعجت أولئك المؤمنين بالنموذج الثوري، أو بالأصح الحقبة الثورية. من الصعب على المعادين للرأسمالية، والأخلاق الليبرالية أن يتقبلوا مبدأ الإقرار بعبثية الديماغوجية الثورية، وعلى الرغم من مرور عقدين على نهاية الشيوعية، وانهيار جدار برلين، فإن الكثير من الأنظمة والأحزاب المؤدلجة، استطاعت الاستمرار بشكل ملفق، حيث احتفظت بذات الخطاب الآيديولوجي مع إجراء إصلاحات شكلية وسطحية، كان أبرزها خصخصة بعض من مؤسسات الدولة المربحة، والتي بدلا من أن تسهم في حل المشكلات الاقتصادية الرئيسية، خلقت طبقة جديدة من المنتفعين المرتبطين بالدولة، وعلى الرغم من أن الكثير من الأنظمة المعادية للرأسمالية - الليبرالية قد اعتمدت شيئا من الاقتصاد الحر وفتحت أسواقها للاستثمار الأجنبي، فإنها أبقت كثيرا من القيود في هيئة أنظمة حكومية (بيروقراطية) بالية. معضلة الإصلاح الاقتصادي أنه لا يمكن تجزئته، أو الأخذ ببعض شروطه وإهمال الباقي، الصين التي انفتحت اقتصاديا بداية السبعينات أدركت ذلك، ولهذا فقد عملت جاهدة على فصل ما هو سياسي عما هو اقتصادي، وخلقت نوعا من الاتزان في الرؤية الاقتصادية الطموحة. صحيح أن هذا الاتزان تعرض لهزات مثل حوادث ساحة تيانامين 1989 حيث أدركت الصين أن عليها أن تتقبل بعضا من نتائج الإصلاح الاقتصادي وما يحمله من خلق طبقة وسطى لها مطالب سياسية واجتماعية. حاليا هناك 247 مليون صيني يصنفون على أنهم من الطبقة الوسطى، والرقم مرشح إلى الارتفاع إلى 600 مليون بحلول 2015. مشكلة كوبا أنها ظلت أسيرة لأحلام قادتها الثوريين، ولم تفكر في الانفتاح على الاقتصاد العالمي إلا مؤخرا. في عام 1993 كانت الأوضاع الاقتصادية سيئة للغاية، حيث قررت السلطات الكوبية السماح باستخدام الدولار الأميركي وفي ظرف سنوات قليلة بدأ بصيص من الأمل يسري في الدولة الثورية مع ارتفاع عائدات السياحة والتجارة - لا سيما السيجار الكوبي الشهير - على الرغم من العقوبات الأميركية، ولكن عوضا عن أن يستثمر كاسترو ورفاقه، هذا التحسن قرروا مجددا تعليق استخدام الدولار في عام 2004، مما ضرب بشكل مباشر الاقتصاد الكوبي، حيث وجدت كوبا نفسها في حالة يرثى لها نهاية عام 2006، ومع تعرض كاسترو نفسه لأزمة صحية (2007) اتجه لتوريث أخيه راؤول السلطة، وكان من أوائل القرارات التي اتخذتها الحكومة الجديدة السماح للمواطنين بشراء الكومبيوترات وأجهزة الهاتف الجوال والميكرويف، في بلد لا يتجاوز فيه راتب الموظف الحكومي 20 دولارا شهريا. في معرض تعليقه على الجدل الذي أحدثه التصريح، قال بيان صادر عن كاسترو إن الزعيم كان يقصد بأن «النموذج الاقتصادي لم يعد يعمل، لكن ذلك لا يعني الثورة والمناقب الاشتراكية وروح الاستقلال، إنه كان يتحدث بالتحديد عن النموذج». أيا يكن، فإن كاسترو - كما يؤكد كثير من المراقبين - يحاول التسويق لإصلاحات أخيه الاقتصادية، خاصة في الوقت الذي أعلنت فيه الحكومة خطتها لتسريح نصف المليون مواطن كوبي من وظائفهم الحكومية. نموذج كوبا الأسيرة لحكم توتاليتاري ثوري منذ 1959، له ما يشابهه في الشرق الأوسط وأفريقيا، حيث تتسلط جماعة مسلحة على الحكم وتفرض آيديولوجيتها على السلطة السياسية بغض النظر عن الخسائر الاقتصادية والبنيوية التي تلحق بالدولة. نظام كاسترو ظل مدعوما من الاتحاد السوفياتي حتى سقوطه، ثم تصدى هوغو شافيز لدعم كوبا بمائة ألف برميل من النفط في السنوات الخمس الأخيرة، ولكن هذا الدعم الاقتصادي لم يفد مع الأزمة العالمية، حيث وجد البلد نفسه عاجزا عن دفع الرواتب أو تسيير الأمور. في الستينات كان كاسترو يفتخر بأن إضراب فلاحي مزارع التبغ، من أهم عوامل نجاح الثورة، ولهذا سعى إلى الترويج لفكرة أن السيجار الذي كان حكرا على الطبقة البرجوازية بات الآن متاحا للعمال والفلاحين، بل ورمزا للثورة والوطن. شيء مشابه حدث في إيران قبل أكثر من مائة عام، حينما تسببت فتوى آية الله الشيرازي (1891) بتحريم التبغ (التنباك) في تراجع ناصر الدين شاه عن منحه رخصة تصدير التبغ لشركة بريطانية. في النهاية أصدر الشيرازي فتوى إباحة للإيرانيين بالتدخين، بحيث وضع خمس عائدات مداخيل التبغ بيد المرجع الشيرازي. أما في كوبا فقد تحول السيجار من أفواه الفلاحين إلى صناديق التصدير طلبا للعملة الصعبة. وفي الوقت الذي يمنع فيه تصدير السيجار الكوبي إلى الولاياتالمتحدة، فإن أعلى منتج تم تصديره إلى إيران هو السجائر الأميركية، التي بلغ حجم تصديرها في عهد الرئيس بوش 158 مليون دولار. وفي خطوة للحد من انتشار السجائر الأميركية أعلن متحدث باسم جمعية مكافحة التدخين بإيران مؤخرا أن السجائر الأميركية ملوثة بدم الخنزير والمخلفات النووية، في مسعى لتخويف الإيرانيين الذين لم تردعهم العقوبات الأميركية من الإقبال على سجائرها. كوباوإيران متشابهتان إلى حد كبير، فكلاهما بلد ثوري قام على عداء الولاياتالمتحدة بشكل خاص، وفرض عزلة داخلية على شعبه، وقلب الاقتصاد رأسا على عقب، بحيث اعتبرت الرأسمالية - الليبرالية تهديدا لمبادئ الثورة. فماذا كانت النتيجة؟ اليوم يعترف كاسترو ورفاقه بفشل مشروعهم المغامر، ويتجهون بشكل كاريكاتوري نحو رسملة النظام الاقتصادي ولكن بشروط بالية من الحرب الباردة. إيران كذلك شهدت حربا ضروسا مع العراق أهلكت الأخضر واليابس، وأنفقت مدخراتها على جماعات وأحزاب في الخارج، وحين بدأت مشروع إعادة الإعمار بداية التسعينات تم تحريف مسار الإصلاح الاقتصادي نحو الاقتصاد المركزي، وبعد مرور عشر سنوات على الانفتاح الاقتصادي استولى الحرس الثوري على أهم الشركات والمؤسسات الاقتصادية. كل ما يأمله المرء هو ألا تكرر إيران أخطاء كوبا، ولعل هذا ما دفع بكاسترو، عجوز الثورة، إلى نصيحة شاب الثورة، نجاد، بألا يستمع إلى الملالي، لأنهم قوم عقائديون (دينيون) لا تسويات عندهم. كاسترو في هذه محق، فلا سيجار كوبا أقالها من عثرتها ولا تنباك إيران سيغني الإيرانيين عن سجائر أميركا.