في كتابه التاريخي المهم «الديمقراطية في أميركا» (1838)، يقول إليكسس دي توكفيل: «لا أعلم أن هناك بلدا يوجد به أقل قدر من الاستقلالية في التفكير الفردي، وأكبر مساحة للتعبير مثل الولاياتالمتحدة». هذا الوصف الذي عبر عنه الدبلوماسي الفرنسي يتبادر إلى الذهن مع تصاعد الخلاف في أميركا حول قضية بناء مركز إسلامي ومسجد على مقربة من مكان تحطم برجي التجارة العالمي في نيويورك. ففي ظرف أسابيع قليلة تحولت قضية المسجد إلى قضية رأي عام أدلى فيها الجميع - بمن فيهم الرئيس الأميركي - برأيه سلبا وإيجابا. بيد أن القضية أخذت أبعادا سلبية داخل وخارج الولاياتالمتحدة مع اقتراب حمى الانتخابات النصفية، بحيث صورت المسألة على أنها خلاف حول موقف أميركا من الإسلام، في حين أن القضية كلها ما كانت لتبلغ هذا الحد لو أن المشروع أقيم في أي شارع آخر في نيويورك أو غيرها من المدن الأميركية، ولكن هل أميركا فعلا تعاني من حالة «إسلاموفوبيا»؟ في عددها الأخير، أجرت مجلة «التايم» الأميركية استفتاء جاء فيه أن 61 في المائة من الأميركيين يعارضون بناء مسجد غراوند زيرو، بل إن قرابة 46 في المائة يعتقدون أن المسلمين أكثر ميلا من غيرهم من الديانات إلى استخدام العنف. قد تعتبر هذه الأرقام مفزعة، ولكنها لا تعبر بالضرورة بشكل دقيق عن علاقة أميركا بالإسلام. فالاستفتاء ذاته يقول إن 24 في المائة من الأميركيين يعتقدون أن أوباما مسلم، فيما يؤيد 55 في المائة منهم تشييد مساجد في حاراتهم. لست أقلل من أهمية هذا الاستفتاء أو غيره، ولكن يجب أن نلفت الانتباه الى أنه في أوقات تصاعد الخلاف السياسي بين أقطاب المجتمع الأميركي تبرز آراء ومشاعر ليست بالضرورة صادقة أو دائمة، فهي تخضع لظروف اللحظة الزمنية التي تؤخذ فيها. نماذج ذلك كثيرة في التاريخ الأميركي، فقد كانت هناك شريحة لا يستهان بها تعارض وصول جون إف كينيدي للرئاسة بوصفه كاثوليكيا سيعمل علي كثلكة بلد بروتستانتي متخوف، وحتى اليوم فإن الموقف من طائفة المورمن (بوصفها حركة هرطقة) فيه إقصائية ربما تفوق الموقف من ديانات أخرى كالإسلام. في عام 1882 صدر قانون فيدرالي ضد تجنيس المهاجرين الصينيين في الولاياتالمتحدة، وخلال الحرب العالمية الثانية وقع روزفلت قرارا رئاسيا عزل من خلاله عشرات الآلاف من اليابانيين في مخيمات خاصة. إضافة إلى ذلك فإن عدد أتباع جماعة الكوكلس كلان العنصرية - المتعصبة ضد السود واليهود والكاثوليك - كان قد بلغ أربعة ملايين مطلع القرن الماضي. هذه الأرقام والمعلومات تكشف في الحقيقة عن حيوية المجتمع الأميركي لا عن تعصبه، لأن أغلب تلك الآراء والقوانين المتطرفة أصبحت في حكم الماضي في ظرف سنوات قليلة، وقل مثل ذلك عن الموقف الذي يدور الآن بخصوص مسجد غراوند زيرو. يلفت إليكسس دي توكفيل الانتباه منذ وقت مبكر الى جدل قيمي داخل أميركا ما بين قيمة «الحرية» و«المساواة» من جهة، وما بين الديمقراطية (حكم الأكثرية) من جهة أخرى، وأنه يمكن رد كثير من الاختلافات السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى الخلاف حول العلاقة ما بين القيم الثلاث، ولهذا تحدث عن ما سماه «تسلط الأغلبية» في مواجهة حقوق الأقلية. الدستور الأميركي هو نموذج كلاسيكي لهذا الجدل القيمي، فبعد أن كتب الدستور في 1787 وجد الآباء المؤسسون تناقضا ما بين بنوده، ففي حين كانت أول فقرة في الدستور تشدد على مبدأ المساواة بين البشر كان من الواضح أن بقية البنود أعطت صلاحيات كبيرة لحكم الأغلبية، ولهذا أضيف إلى الدستور «قانون الحريات» (1789)، والذي اشتمل على عشرة حقوق فردية تضمن حرية الفرد في مواجهة حكم الأغلبية. دستوريا يحق للإمام فيصل عبد الرءوف وزملائه في «مبادرة قرطبة» - أصحاب المشروع - أن يبنوا مسجدا ومركزا دينيا في أي مكان في الولاياتالمتحدة - بما في ذلك مكان تحطم البرجين - وحتى الآن فإن أصواتا مهمة، مثل حاكم ولاية نيويورك السابق مايكل بلومبرغ، وغالبية من رجال القانون والفكر قد أيدوا حق أصحاب المشروع في بناء المركز. إذن فالقضية لم تعد مسألة معارضة الإسلام بوصفه إسلاما، أو تمييزا دينيا، لأن الدستور والقانون يكفلان حرية العبادة بما في ذلك بناء مسجد غراوند زيرو، ولهذا فإن القضية تصبح قضية حكمة وتقدير لخيار فردي مشروع، أو بمعنى أدق مسألة حساسية اجتماعية، وهنا يجب أن نسأل الإمام فيصل وزملاءه لماذا يريدون أن يبنوا مركزا إسلاميا قيمته 100 مليون دولار إذا كان ذلك يضايق مشاعر الأميركيين! حقيقة الأمر أن الموقع المشار إليه يصلى فيه منذ أكثر من عام ولولا الضجة الإعلامية التي أثارها مشروع قرطبة لما انتبه لذلك أحد، بل إنه وعلى بعد أمتار قليلة يوجد مسجد رسمي قبل عملية 11 سبتمبر الإرهابية، وما زال قائما هناك. وهنا علينا أن نسأل: لماذا يتم بناء مسجد ومركز آخر إذا كان هناك مسجد قريب بالفعل؟ لست أدري من أين سيؤمن أصحاب المشروع 100 مليون دولار إذا كان رئيس المبادرة يجول في منطقة الشرق الأوسط لنشر التسامح الديني بنفقة لم تتجاوز 16 ألف دولار على حساب الخارجية الأميركية، لست هنا أقلل من جهود الإمام وزملائه الراغبة في تصحيح الصورة المشوهة عن الإسلام، ولكن حين يثبت أن المشروع يوتر العلاقة بين الأميركيين المسلمين ومواطنيهم فإن المشروع حينها يكون قد جاء بنتائج عكسية. لقد قال البعض إن تخلي أصحاب المشروع عن مشروعهم يعني تخليهم عن حقوقهم الدستورية، أو أن المعركة ليست مسألة تغيير لموقع المشروع بل مدافعة ضد مشاعر التمييز المتعاظمة ضد المسلمين. إذا سلمنا بهذا الاعتبار، فإن التسوية حينها تصبح الحل الأمثل لأن الأهم ليس موقع المشروع بقدر ما هو قدرة الأميركيين المسلمين على توثيق الصلة بمواطنيهم. لقد كان توكفيل محقا، فاستقلالية التفكير الفردي في أوساط الأميركيين المسلمين لا تزال متأثرة بتاريخ من العداوات والخلافات الموروثة من بلدانهم الأم مع أميركا، والمنتظر منهم تصحيح ذلك، فتغيير موقع لا يغير من رسالة المكان شيئا.