أستهل هذه الإطلالة بقول الشاعر الحكيم: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا من المعلوم بالضرورة لدى المحققين من أهل العلم وأعلامه أن الفتوى توقيع عن رب العالمين بالحكم الشرعي وجوباً أو حظراً أو كراهة أو استحباباً أو إباحة. وقد كان السلف الصالح ذوو التقوى والورع والصلاح يتوقَّون خطورة الفتوى بالهروب والحيدة عنها ما أمكنهم ذلك. فكانوا يتدافعونها حتى تعود بالمتدافع إلى أول من دفعها. وكانوا رحمهم الله يستشعرون خطورة الأثر الكريم: أجرؤكم على الفتوى أجرؤكم على النار. وكان واحدهم لا يتردد في الرجوع عن الفتوى إذا ظهر له بطلان ما أفتى به ، من ذلك رجوع أبي بكر - رضي الله عنه - عن الفتوى بحرمان الجدة من الميراث بعد أن ثبت لديه توريث رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، وكذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حينما همّ بتحديد مهور النساء فاعترضت عليه امرأة بقول الله تعالى: (وآتيتم إحداهن قنطاراً) فقال رضي الله عنه: أصابت امرأة وأخطأ عمر. لقد كان مقام الإفتاء مقاماً خطيراً لا يرتقيه إلا من هو أهل له من حيث العقل والعلم ودقة التصور ، وسعة الاطلاع على كلام أهل العلم وإدراك المقاصد الشرعية ، وأن يكون المفتي محل ثقة وقدوة حسنة وتقى وصلاح. ولقد كان للإفتاء وللمفتين مرجع مؤسَّس من ولي الأمر يختص ذلك المرجع بالمراجعة والمتابعة ، ومتابعة الاجتماعات بين العلماء ومناقشة ما يحتاج إلى بيان وفتوى وتعقيب. ولا يمنع من التعقيب والملاحظة والرد أن تصدر الفتوى من كبير في العلم والصدارة إذا كانت الفتوى محل نظر وملاحظة. وأذكر على سبيل التمثيل ثلاث وقائع لثلاث فتاوى صدرت من كبار علماء لهم في مجتمعهم كامل الثقة والاعتبار والاعتراف بعلمهم وكفاءتهم للفتوى أحدهم الشيخ علي بن عيسى - رحمه الله - قاضي الوشم في عهد الملك عبدالعزيز حيث أفتى بأن للقاضي في حال تعيينه قاضياً من وليّ الأمر وعدم تخصيص رزق له من بيت المال أن له حق فرض أجرة له على الخصوم في حال التداعي إليه، فاستنكر المرجع القضائي وطلب مناقشته عن وجه اعتبار فتواه وذلك في مجلس الملك عبدالعزيز - رحمه الله - وبحضور مجموعة من علماء البلاد وبعد المناقشة انقضى المجلس إلى إنهاء الاختلاف. الثاني فضيلة الشيخ عبدالرحمن بن سعدي - رحمه الله - حينما قال بأن مجتمعات الصين هم يأجوج ومأجوج فكانت هذه الفتوى مثار استنكار وطلب المرجع للقضاء والفتوى من الملك عبدالعزيز إحضار الشيخ وعقد مجلس علمي عند جلالته للنظر في ذلك ، وتم عقد المجلس وانتهى النظر إلى ما فيه الخير للجميع. الثالث سماحة شيخنا الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - حيث أفتى في الطلاق الثلاث بلفظ واحد بأنه طلقة واحدة وكانت هذه الفتوى خلاف ما عليه العمل والفتوى لدى جمهور أهل العلم. فطُلب من الملك عبدالعزيز إحضاره في مجلس علمي لدى جلالته ومناقشته عن هذه الفتوى وتم ذلك بحضور مجموعة من علماء البلاد وانتهى الأمر إلى توحيد الفتوى. أما اليوم فقد كاد الحبل يضيع أو ينفلت من يد ماسكه وصار الأمر كما قال الشاعر: لقد هزلت حتى بدا من هزالها كُلاها وحتى استامها كل مفلس وكما قال الشاعر الآخر: إن البغاث بأرضنا يستنسر فها نحن اليوم نسمع ممن يعي ، ومن لا يعي فتاوى فجة شاذة مستغربة منكرة. وإن قال ببعضها من قال بها من شواذ العلماء فيجب علينا معاشر طلبة العلم أن نتقي الله تعالى وأن نستشعر خطورة الجرأة على الفتوى ، وأن نبقي عموم إخواننا المسلمين على ما ورثوه من آبائهم وأجدادهم مما هو علم وتوجيه علمائهم ذوي التقى والتوقي والصلاح والحرص على الاستبراء للدين والعرض والبعد عن الشبهات والأقوال الشاذة. كما يجب على مرجعيتنا الحفاظ على سلامة سير سفينتنا في هذه الحياة؛ فالعامة في ذمة هذه المرجعية ولتحمد هذه المرجعية بارئها أن هيأ لها ولاية عامة تسمع لتوجيهها وتستجيب لتوصيتها وقراراتها ونحن دائماً نسمع ونشاهد ونقرأ ما يكرره مليكنا المفدى خادم الحرمين الشريفين من أن ثنتين لا نساوم فيهما مطلقاً الدين والوطن. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم والله المستعان..