د. عيسى الغيث - المدينة السعودية نشرت مجلة المجلة الإلكترونية، في يوم السبت 21 نوفمبر 2009، لقاءً أجراه الأخ الشيخ خالد المشوح، مع الكاتب والباحث السعودي ناصر الحزيمي، بصفته ممن عاصروا جهيمان العتيبي، واقترب منه داخل الجماعة، مما جعله يقف على أدق التفاصيل لشخصيته وتفكيره، وشاهد عن كثب لمراحل تأسيس «جماعة السلفية المحتسبة». وقد تأملت هذا اللقاء الماتع النافع، فوجدته يحمل في جنباته الكثير من الدروس لأولي الألباب والنهى، لأنه أورد فيه الكثير من الأسرار التي تجري في الاجتماعات السرية، وكيف صعد جهيمان إلى قيادة الجماعة، وما يهمنا هو ظروف بداية تلك الجماعة، وكيف تأسست، والفكر الخَلاصي عند جهيمان، وتحوله من العمل العلني إلى السري، إلى أن وصل لفكرة اقتحام الحرم، وتنصيب المهدي المنتظر المزعوم منهم. كان العقل الباطن لهم متأثرًا بالكرامات التي يروونها عن سلفهم، ولهم تأثر بجماعات محلية، وعندما أسسوا الجماعة كانت بقصد الدعوة، والاحتساب، والاهتمام بمنهج السلف، ومحاربة البدع والمنكرات، وانطلقت من المدينة بصفتها العلنية الدعوية والاحتسابية، وبالمحاضرات والدروس، وكان لهم مجلس شورى يجتمع ويناقش الأمور سراً. بعد ذلك وصلت لمكة المكرمة ثم الرياض، ثم بقية أنحاء البلاد، وكانت المرحلة وتطوراتها في شؤون الدعوة والاحتساب، حتى بلغت الاعتقاد بالمهدي المزعوم منهم، وذلك بتأثير سلبي من كتب الفتن وأشراط الساعة، فكانت الرؤى محل تصديق، وهوس، ولذا بلغ بهم الحال أن آمنوا بسيناريو يبدأ بمبايعة للمهدي المزعوم منهم بين الركن والمقام، ويعتصم هذا الرجل ومن معه في الحرم، ثم يأتي جيش من تبوك ويُخسف بهذا الجيش، ثم يخرج هذا الرجل من الحرم ويذهب إلى المدينة ويحارب المسيح الدجال، ثم يخرج من المدينة ويذهب إلى فلسطين ويحارب هناك اليهود ويقتلهم، ثم يأتي عيسى بن مريم فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويذهبون إلى الشام فيصلون في مسجد بني أمية، وبعد ذلك تقوم القيامة الكبرى!. ولكن هذه المنامات، لم تكن إلا خيالات وأوهاماً في أنفس أصحابها، حيث قتل المهدي المزعوم في الحرم، ولكن جهيمان رفض تصديق ذلك، وأرغم المجموعة على تكذيب ذلك، وقاطع وغضب على من يقول بأن المهدي قد قتل، وقال بأن المهدي لا يمكن قتله، وإنما هو محصور في الحرم، وسيخرج، فكانت هذه الرؤية من أنواع الخَلاصيات والأوهام التي دفعتهم لتلك الضلالة، فالهوس بفكرة الخلاص من خلال المهدي المزعوم، كان هو سيد الموقف، كما كان من قبل سيد القرار بالاعتصام في المسجد الحرام. فالجماعة المحتسبة كانت تحت سيطرة وتحريك ودافع من فكرة الخلاص الغيبية، وما دفعهم للرغبة بالخلاص، إلا لما شحنته الجماعة في نفوس الأتباع والمريدين، من ضلال المجتمع وهلاكه وزيغه، وحاجته لمثل هذا الخلاص، فوجدت في شخصية جهيمان الثورية من جهة، والمتعلقة بالغيبيات من جهة أخرى؛ الخلاص، لأن دافعها عدم الرضا بالواقع، ويغذيها إيمان بالرؤى والمنامات، وتؤيدها أعمال متوالية متراكمة، انتهت إلى ما انتهت إليه من تطرف فكري، فتطبيق ميداني. ونجد أن الدوافع الفكرية لتلك الجماعة هي مبالغتها في النظر للمنكرات، وتطرفها في وسائل تغييرها، والنظرة السوداوية تجاه المجتمع، إلى حد المبالغة بظهور علامات قرب قيام الساعة، وأن الفتن ما تركت بيتاً إلا دخلته، وهكذا هلكوا وأهلكوا، كما كانوا يقفون ضد العمل في الوظائف الحكومية، وبدافع متطرف، وهذا لما يحمله أولئك من مبالغات تجاه ما يتصورونه من أحوال اجتماعية رأوها بشكل متشدد، وبغلو وتنطع، فكانت تلك المبررات التي قادتهم في النهاية وعبر تطورات تراكمية إلى ما حصل في الحرم. حيث بدأت الجماعة بفكرة دعوية، وأعمال احتسابية، وانتهت إلى انتهاك المسجد الحرام والدماء المحرمة، في مكان محرم وزمان محرم، في حين كانت البدايات منحرفة بشكل يسير، ومع طول الطريق زاد الانحراف شيئاً فشيئاً، لأن العبرة بالبدايات، فإذا كانت البدايات سليمة فستكون المسيرة والنهاية بإذن الله موفقة، إذا روعيت سلامة الطريق، واعتدال مراحله، وأما إذا بدأت الأعمال بالانحراف ولو قليلاً، فستزيد لاحقاً، وهذا ملموس فعلياً، فإذا كان الخط مستقيماً استمر كذلك، وإذا كان مائلاً ولو قليلاً فتراه كلما ابتعد عن مركزه زاد انحرافه، حتى لا يكون بينه وبين المركز علاقة إلا أنه قد بدأ منه، ولذا نجد أن هذا الفكر بدأ بمبدأ المعارضة للواقع، والمناكفة للوقائع، والمبالغة بالتصور، والسوداوية في التحليل، ونقد أسلوب الحياة، وفرض نظرية متشددة، ومع أن جهيمان قد شط في نظريته تجاه محمد بن عبد الله القحطاني، وأنه هو المهدي المنتظر، إلا أنه وجد من يصدقه ويقع ضحية له، مما يعني أنه من المحتمل في كل زمان ومكان أن يجد كل ضال من يناصره ويؤيده، ويبرر له صنائعه، فهاهم قرابة المائتين والخمسين رجلاً اجتمعوا على تصديق هذه الأوهام، والعمل بها، إلى حد الاعتصام المسلح، وإغلاق المسجد الحرام، واستباحة الدماء الطاهرة. كما أن التوقيت يدل على ضلال آخر، فغرة القرن الجديد هو في 1/1/1401ه، وأما 1/1/1400ه فهو اليوم الأول من العام المتمم للقرن السابق، وليس بداية للقرن الجديد. والسؤال الذي يطرح نفسه : هل قرأنا التاريخ ووقائعه ومراحله وظروف تشكله، ومن ثم ننظر في واقعنا، لنتلافى أخطاء الماضي، ويكون لنا عظة وعبرة، والله المستعان.