ماكس فيبر عالم الاجتماع الألماني علاقة الإصلاح الديني بالنهضة الاجتماعية خالص جلبي - الوطن السعودية كنت في مكتب جون جاروفي في مونتريال حين هممت بالهجرة إلى كندا وبين يدي كتاب (روح الرأسمالية وأخلاق البروتستانتية) لعالم الاجتماع الألماني (ماكس فيبر) فنظر إلي متعجبا مرتين؛ كوني طبيبا وشرقيا أقرأ في التراث الغربي، وفي علم الاجتماع تحديدا، وأنا بدوري تعجبت منه مرتين لأنه رجل انتفخ سمنا وسحتاً،فلم تسعه ملابسه، وعقله في الدولار الأمريكي قبل الكندي، فهو كان يرحِّل القوم من الشرق الأوسط إلى كندا ولكن أتعابه يأخذه بالأمريكي لأنه أغلى! فتعجبت من عجبه. والجاروفي رجل أصله إيطالي، قام ب (جرف) الكثيرين من جرف الشرق إلى جنات كندا، ولكن على أجنحة من اليورو والدولار، كما في النزف المزمن لمريض هو بالأصل عليل. لقد استفدت من (جلال صادق العظم) في كتابه حول نقد الفكر اليساري، أن من يمسك أمريكا ليس اليهود بل (الواسب) أي البروتستانت البيض، أي إنهم رواد الإصلاح الديني من ودع القارة العجوز وبنى العالم الجديد في أمريكا الشمالية، مقارنة بآثار الكنيسة الكاثوليكية من البوابة الخلفية المتخلفة، في المكسيك وأمريكا الجنوبية، فهنا جنات ونهر، وهناك مدن الصفيح وسقر والفساد والتهريبة بأي وسيلة لمناطق الرحمة والعقلانية. لقد استفدت من هذا الألماني انتباهه، أو لنقل محاولة كشف السر حول التحول الرأسمالي في أوروبا، ومن أعجب النتائج التي خرج بها، أن هذا متعلق بالإصلاح الديني، وبروز ضرب جديد من الأخلاق العملية، والرجل عزا نهضة أوروبا إلى مثلث من ترسخ ثلاث عادات عقلية، تمت ممارستها ميدانيا في الأرض، على شكل نسق اجتماعي، فمع الإصلاح الديني الذي بدأه (مارتن لوثر) في ألمانيا رجع الرهبان إلى الحياة الطبيعية قبل كل شيء، فأعلن نفس لوثر أنه تزوج ب (كاتيا) وطرح الأسئلة المزعجة على الكنيسة، على شكل تسعين سؤالا على حائط كنيسة موجهة للبابا والكرادلة العظام. والرجل كان متدينا إلى مخ العظام؛ فلم ينحرف ولم يصبأ، بل رجع إلى الإنجيل، وبدأ بترجمته إلى اللغة الألمانية البسيطة، مما يتيح الاطلاع عليه خارج خرابيط وخزعبلات الكنيسة وتسلط رجال الدين بالاحتكار الخاص لمفاهيم الكتاب المقدس، أنهم مرجع الحقيقة النهائية؛ فكسر بذلك وللأبد الاحتكار الديني للمفاهيم، فخرجت فرق لانهائية من الحركة العقلية الجديدة، رآها فولتير حين نفي إلى بريطانيا؛ فقال رأيت أكثر من ثلاثين فرقة دينية بدون رجل دين واحد! وكانت هذه الحركة الذكية منه، سببا في إحداث زلزالٍ في صرح الكنيسة، ومع ضربة (جوتنبرج) في اختراع الطباعة، تم توزيع ملايين النسخ من الإنجيل الجديد. وأنا شخصيا أعترف للقارىء أن الأمر كان ملخبطا في رأسي، حتى قرأت كتاب (قصة الحضارة) لويل ديورانت، فتبلور الأمر عندي وعرفت أن الصراع كله دار حول مصالح الكنيسة ومصالح العباد، وأن هؤلاء الرهبان الفاسدين، الذين وصفهم القرآن بكنز الذهب والفضة، أنه سيحمى عليها في نار جهنم؛ فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ماكنتم تكنزون. إن كثيرا من الأحبار والرهبان ورجال الدين يصدون عن سبيل الله باسم الله. نعم كانت المسألة بالضبط هي في تحرير ألمانيا من قبضة الكنيسة وجشعها في صورة صكوك الغفران، حيث يدخل الجنة كل عتل زنيم، فقط لأنه دفع أكثر في رشوة رب لايرتشي، كما في تذاكر دخول اللوج العالي في صالة السينما. حيث لايقبل منهم عدل ولا شفاعة ولا هم ينصرون. وعند هذه النقطة حاول (ماكس فيبر) تفكيك الجديد الذي أتى به لوثر، وعند هذه النقطة وقف أيضا توينبي حينما أراد شرح التحول الأوروبي، وهو أمر اشتغل عليه الكثيرون، لمعرفة السر في تحول العالم، كما كتب (جاك بيرج) كتابا كاملا بعنوان (عندما تغير العالم)، وهو تحفة أذكر أنه كتاب خطف نظر صديقي أبي عبد الرحمن مدير عام الشئون الصحية يومها في القصيم، كما جرت عادتي في حمل كتاب أينما ذهبت، قلت له تفضل النسخة، وكانت عزيزة علي، وآمل أن يكون قد قرأ الكتاب واستفاد منه. إن نقل علوم البيولوجيا وتطبيقها في علم الاجتماع أمر قام به أيضا الفيلسوف البريطاني (هربرت سبنسر) وأنا بدوري حاولت فهم سر تحول الأمم، كما تفعل الأمراض والعلل، أو انتقال وحدات الأفكار مثل انتقال وحدات الجهاز المناعي والفيروسات صحة ومرضا. لقد استفدت من فيبر ثلاث أفكار في التحول الاجتماعي؛ الأولى هي في خلق روح المبادرة، وهو خُلٌق شاهدته في ألمانيا، وسمعت كلمة من البروفيسور بوركهاردت في مدينة فيلهلمسهافن لا أنساها (انكاجما) ولعلها من أصل فرنسي، وهي بالإنجليزية (انتياتيف Initiative) عندها استوعبت روح الحضارة الغربية، وهو عكس ماعندنا تحت شعار (ما دخلنا) الانسحاب والانكماش والفردية عند المواطن، فيتحول المجتمع إلى ذرات رمل غير متماسكة، تعصف بها عاصفة الصحراء، فلا تنبت زرعا ولا ضرعا، خلاف التربة الأوروبية الطينية المتماسكة الذرات، التي جعلت الأرض بستانا مخضرا، بهجة للناظرين وآية للمتوسمين. والعنصر الثاني كان في قيمة العمل أمام الرهبان الكسالى التنابل الزاهدين في الحياة بدون زهد سوى التحلل الخلقي البطيء، كما جاء ذلك في عنوان صارخ لمجلة الشبيجل الألمانية مطلع عام 2010م، والثالث كان حول مفهوم الربح، وهو ماعجل أيضا بظهور فكرة الفائدة المحدودة تنشيطا للاقتصاد، حتى برزت مشكلة المرض الدوري للرأسمالية، كما بينها (رافي بترا) الاقتصادي الأمريكي هندي الأصل، عن دورة ماحقة تلتهم ماقدمت لهن من سنوات، كما في سنوات يوسف ليس سبع سنين دأبا، بل ستون عاما، وحصل هذا مع عام 1928 ثم 1988م ولكن الكبيرة كانت مع أزمة الرهن العقاري مع الإفلاس الأمريكي الوشيك عام 2008م متأخرة الدورة عشرين عاماً، وهي التي يتمخض ويتمحل ويتوحل العالم فيها حتى اليوم. والمهم في فكرة ماكس فيبر حول مفهوم الربح والعمل أن الرهبان تحولوا إلى بشر عاديين، في ثورة إصلاح دينية عارمة؛ فتزوجوا وبنوا عائلات وأصبحوا بشرا ممن خلق، وكسبوا وعملوا بهمة ونشاط؛ فهذه هي الروح الجديدة التي أقبلت عليها أوروبا، وودعت كسل الكنيسة والدوجمائية والرهباينة التي ابتدعوها، وهو أيضا الأمر الذي اهتدى له تويبني في فك سر التاريخ في ست مراحل تصب في النهاية مع الإصلاح الديني وما لحقه من انفتاح العقل على كشوفات الجغرافيا، وانقلاب المفاهيم حول الأرض مع ماجلان، والجسد مع تشريح فيزاليوس، والسماء مع كوبرنيكوس، وكان ذلك في مطلع القرن السادس عشر، بل حتى مع عام واحد هو عام 1543 م مما جعله يطلق عليه عام العجائب.