* «قال لي أستاذي الدكتورُ مقبل الذكير شيئاً لا أنساه» - ردٌّ ظهرَ بردود مقالي بالأمس من الشاب ظافر السبيعي، مبتعث الماجستير في لندن. .. هذا الذي يجري حول تقييم الجامعات والتسابق على المراكز المتقدّمة، ليس شيئا استراتيجياً في رأيي، قد يكون معيارياً مهماً، ولكن المهمة الاستراتيجية هي: المخرجات، متى كانت المخرجاتُ جيّدة ومطلوبة وقادرة على التطور فلن يهمنا أين يكونُ موقع الجامعات. «جامعة الملك فهد للبترول والمعادن» مثلاً.. لا يبقى خريجٌ واحدٌ من مخرجاتها خصوصا في الهندسةِ والدراسات المالية والإدارية المعلوماتية إلا وتتكالب عليه شركاتُ القطاع الخاص.. وخذ مني، وعلى مسؤوليتي: ولا واحدة من تلك الشركات، ولا واحد من القطاع الخاص يعرف أو يهتم ما هو مركز هذه الجامعة على قائمة الجامعات العالمية. وليت موضوع قائمة الجامعات وقفَ عند هذا، بل صار رمالاً متحركة من حاول أن يخوضها يغرقَ فيها، ثم إنه لا يغرق فيها وحده، ولكن يجر باقي القطار الجامعي معه. يؤسفني جدا أن النقاشَ حول المراكز الجامعية ألهى عقليْن من أجمل العقول، لا أعرف الدكتور علي الموسى بشخصِهِ إلا كقارئٍ يعرفه ويعجب به مثل قرائهِ الكثيرين، وأعرفُ الدكتور القنيبط شخصيا كصديقٍ قريبٍ، وأعرف أنه يملك وباقتدار ملكتَيْن نابهتين جميلتين ونادرتيْن: الذكاءُ المتوقدُ، والصراحة التي لا تتقنّع.. وهو هنا يخالف «أوسكار وايلد» أكثر فتيان الأدَبِ الإيرلندي صراحة، حين قال: «لن يقول أحدٌ الحقيقة بلا قناع»، على أن القنيبط فعل، وسيفعل، ولم أكن أتندّر معه وأنا أطلق عليه لقب «روبن هود» الشعب السعودي، ف «روبن هود»، أسطورة العصور الوسطى البريطاني، عاش في غابة «شيروود» في منطقة نوتنجهامشاير، بطلٌ ينصف الفقراءَ من الأغنياء والأقوياء ومعه زُمْرته، ويسمَّوْن بالفولكلور الإنجليزي «الرجال المرحون Merry men»، على أن «روبن هود» السعودي ليس حوله رجال مرحون. ولا هو من المرحين. إنه من الجادّين الأقوياءِ الجنان.. ولكن في حرب «دينكخوتية». عندما يتفرغ رجلان نتوسم بهما الوطنية الخالصة، والشعبية المنتشرة، ومن بيئة الأكاديميا السعودية ليتبارزا بسيوف الصحافةِ حول من منهما الأكثر صدقا، فقط من أجل موضوع تقييم الجامعات، فإنهما هما يكرسان بطلا جديدا، من أساطير الإسبان هذه المرة، وهو «دون كيخوتيه» محاربُ طواحين الهواء. لقد دخلا ما رأيناه أن وحْلَ النقاش المتحرك، فالردُّ يستجلبُ الردَّ في عبَثيةٍ بيكيتيةٍ ( لِ «صموئيل بيكيت» مسرحية باسم «عودة جودو»، يظهر فقط اثنان طيلة المسرحية من ثلاثة فصول يتحاوران حول «جودو» ينتظران عودته، تنتهي المسرحية ولا يعود ولا يظهر «جودو»). ولو ثبت أن الجامعاتِ السعودية بأعلى درجات التقييم، ولم تكن مخرجاتُها تنافسية في سوق العمل، بل في سوق الحياة، فما جدواها؟ والعكسُ لو ثبتَ العكسُ! أنظر لو أن هذين الرجلين الممتازين بذلا جهداً ألمعَ في نقاش المادة التعليمية ذاتها، وعصرنتها، لتقديم مخرجات أنموذجية، أو أفضل، من أجل نفسها، ومن أجل وطنها، فهنا سيكون الجهدُ محمودا وديناميّا مهما كان الرأي. إنه أمرٌ واقعٌ الآن.. جامعاتُنا ومعاهدنا التدريبية وشبابنا يواجهون عالماً أعاد تشكيله التغير. في العالم تغييرٌ سيزمائي (ذلك الذي يسجل الحركات الكبرى كالزلازل) في كل شيء حولنا، ليس طوبة جديدة، ولا خطوة جديدة، إنما تغيّرٌ يقاس على مؤشر ريختر. ما زالت بيوتاتنا الأكاديمية تعد الخطواتِ بأناةٍ وكأن العالمَ سادرٌ حولها، بينما بيوتات المعرفة والبحث بالعالم يتوقعون الزلازل والصواعق التغييرية في كل لحظة.. بل الحقيقة، يصنعونها! إننا بعالم كونيٍّ، أحببنا أم لم نحب، فيجب أن تكون العقولُ مُعَدَّة مؤشراتُها على المحطةِ الكونية.. عقولٌ كونيةٌ لا عقول تهرقُ إمكاناتِها على نقاش ضيّقٍ محلي، ثم هي دائرةٌ لا نخرج منها إلا.. إليها. إنه لا يعنيني في شيء سلّم الموسيقى، ولا سلم الدرجات التحصيلية بقائمة الجامعات، كما لا تهمني تنافسيات ملكات الجمال، فلن نطول منهنّ شيئاً إلا ضياع الوقت.. التنافسية الجمالية موضوعٌ ترفيهي لا دافع عملي لبناء طاقاتِ الأمة الأعظم: شبابُها. الذي يعنيني كعقلٍ صغيرٍ ضمن الجموع، إننا نريد من الجامعات ثلاث مهام لا غير، وبعدها مسموح لها أن تتبوأ أي مكان تختار: 1- جيلُ عملٍ، ومهاراتٍ، يوائم طلبات السوق، أو يتفوق عليه. 2- مكافحة الفقر، حين يكون الخريجُ الجامعي قادراً على كسب عيشه وإحضار الطعام على مائدة أسرته.. وتطبيبهم، وتعليمهم. 3- أن تفتح أمامهم الممرات لتلقي درجات العلم الأعلى متى كانت عقلياتهم قادرة على تناول مواضيع أكثر تعقيدا، وأرقى تطوراً. لن يتمّ هذا إلا بعقليةِ المعلمين الكبار الذين لا ينساهم تلاميذُهم، لأن التلاميذَ محورُ اهتماتِهم، ولن ينسى التلميذُ المحبُّ ما علمه أستاذُه المحبُّ، تماما كما بقيت جملةُ وضعها الأستاذُ الكبير الدكتور «مقبل الذكير» بعقلِ طالبه الذي الآن بدراساته العليا في أرقى مدن العالم، وبقيت جملة أستاذه أعلى بروزاً من برج لندن!