في أول انتقال لي إلى لندن، كنت كلما ذهبت إلى المتجر المجاور لأشتري شيئا أعامل كشيء نكرة. اعتقدت أن في الأمر عنصرية ما.. بسبب شكلي، أو لوني، أو حتى لغتي الإنجليزية التي كانت تشبه أي شيء إلا الإنجليزية. حتى السكرتيرة التي كانت تعمل تحت إمرتي عاملتني بالطريقة ذاتها. في صبيحة أحد الأيام فاض بها الكأس فقالت لي عندما طلبت منها طباعة رسالة عاجلة «قل لو سمحتِ أولا». استغربت طريقتها الآمرة لي وأنا رئيسها. نظرت إليها في تحد ولم أجب، فأدارت ظهرها وعادت بعد ربع ساعة وهي تقول بازدراء «تفضل» وألقت بالرسالة أمامي. ثم وقفت بضع لحظات أخرى تنتظر أن أقول لها شيئا، لكني كنت كصنم لا حياة فيه، فأدارت ظهرها وانصرفت وهي تتمتم بكلمات لم أفهمها. ذهبت إليها كمدرس يريد أن يعاقب تلميذا على قلة ذوقه، فوجدتها تسألني أولا «ألم تتعلم يوما أن تقول عندما تطلب شيئا لو سمحت، أو من فضلك، أو لطفا»؟ فاجأني سؤالها، وأضافت في تهكم «حتى كلمة شكرا لم تنطق بها منذ عملت معك». لم أعلق على ما قالته، بل أدرت ظهري في كبرياء، وأنا أتمتم لعنات لا عد لها على قلة الذوق تلك. في الليلة ذاتها، وجدت نفسي أسأل: من هو قليل الذوق فعلا، أنا أم هي؟ وأخذت أحسب عدد المرات التي قلت لها فيها «لو سمحتِ، أو من فضلك، أو لطفا» فوجدتها.. زيرو. صفر مكرر مئة مرة. أما عدد كلمات الشكر، فصفر مكرر ألف مرة، وعدت إلى السؤال ذاته: من هو قليل الذوق فعلا؟ في الصباح التالي توجهت إلى صاحب المتجر، وعندما استخدمت، على استحياء، بعض كلمات اللطف والأدب، مثل «لو سمحت، ومن فضلك، وشكرا»، وجدت ابتسامة تحل مكان الأنياب التي اعتدت رؤيتها. ومع نجاحي هنا قررت أن انتقل به إلى سكرتيرتي. بعد ذلك أصبحت عبارة «من فضلك» مرادفة لكل ما أطلبه منها، وكثيرا ما ألحقت الاثنتين معا «من فضلك وشكرا» أو «لو سمحت وشكرا مقدما» حتى لا أحاسب على قلة إنسانية ورثتها لسنين طويلة. نعم، هو إرث سنين طويلة عشتها دون أن أعي عظمة تقدير الآخرين ولو بكلمة «لو سمحت» أو «شكرا»، شأني في ذلك شأن كثير من أبناء بلدي. الأدب ليس أن تقرأ في كتب الأدب، ولا أن تحصل على شهادة عليا، بل هو في إنسانيتنا مع بعضنا. الأدب هو ما نفعله لا ما نقرأه. لقد كنت في حاجة إلى سكرتيرة إنجليزية تعلمني كيف أكون إنسانا مع الوزير والمدير وبائع الصحف. اليوم أدين لها بالشكر، ولها أيضا أقول: ليتني أستطيع أن أرسل لك كل من أعرفهم فتعلميهم الدرس ذاته. لكن ستبدئين بمن يا عزيزتي، وأين ستنتهين؟ [email protected]