إن مهمة المثقف بوجه عام لابد أن تلامس هموم مجتمعه المحلي وأوجاعه، فيسعى إلى تشخيص علله عن قرب، كما على المثقف السعودي تحديدا أن يدرك الصلة المعرفية النفسية والعضوية بين خطابه ونمط الوعي الاجتماعي، ويحدد طبيعة العلاقة بينهما حتى يمكن لخطابه أن يعكس وعي المجتمع وأصالته وحضارته وتاريخه بعيدا عن بريق التعالي أو السلطة. فأسوأ ما يسبب عزلة وعجزا للخطاب الثقافي عن مسايرة هموم المجتمع هو نزعة التغطرس والاستعلاء والسلطوية ولو كانت طارئة. وامتلاك الخطاب الثقافي إرادة الخروج من إشكاليته الراهنة ليست مشيئة شخصية، أو رغبة فردية يتغنى بها كل مثقف على حدة؛ بقدر ما هي مرهونة بالإرادة الجماعية المستقلة وبالثقة المطلقة، وبالإمكانيات الواقعية التي تمتلكها الأمة أو ما يجب أن تكون عليه، وبالانفتاح المقنن الذي يفضي إلى التجديد والإبداع، فلا يتحول الخطاب الثقافي الوطني إلى حالة من المسخ والذوبان في بنية الآخر المعرفية، لدرجة فقدان الملامح الثقافية. المثقفون بحاجة ماسة إلى ما يسمى بالاتجاه التوليفي الذي من سماته تحقيق الموازنة بين الرؤى والتطلعات وبين واقع الأمة التي لازالت تعيش اتجاهات مختلفة وتيارات وأطيافا متنوعة سواء اختارت أن تكون تبعية منفرجة تزري بمكانتنا، وتفقدنا إرادتنا، وتقودنا إلى الغربة والتبعية والتهميش، أو آثرت أن تبقى منغلقة، حادة، تحتمي بالماضي وتمجده فتعمي بصيرتنا وتشل حركتنا فتقصر خطوتنا! ونحن نريدها ثقافة شمولية قائمة على اتجاهات مضيئة, وصياغة منهجية لهموم العصر، قادرة على مواجهة تحديات الواقع، من خلال الانبعاث من جديد إن لم تتمكن من النهوض من كبوتها التي طالت فأرّقتنا ! ولا يمكن أن يتأتى ذلك إلا بإرادة سياسية قادرة على خلق الأرضية الصلبة والمناخ الموضوعي المعتدل القادر على إشاعة الأجواء الديمقراطية وروح التعددية الثقافية، والحوار الهادف المثمر، وإيجاد الفرص المتساوية لجميع الأطياف من أبناء المجتمع، ورفض التهميش. والسعي بجدية لتأسيس وبناء قاعدة صلبة حقيقية، لإقامة صروح التخلق الثقافي الجديد، وصولا لثقافة علمية تحارب الجهل والخرافة وألوان التخلف، لكي نقضي على موروثات مغرقة بالقدم تسخر من العمل المهني، صناعيا كان أو زراعيا أو خدمياً. والمثقف لا يستطيع أن يصل بالمجتمع مراتب متقدمة بدون الحوارات الهادفة والصراعات السلمية وتفعيل التفكير. ومعظم النواميس والقوانين والتشريعات الإلهية والفلسفات والأفكار والثقافات التي ظهرت منذ بزوغ شمس البشرية قامت بتنظيم الجماعات وفق ضوابط اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية متوازنة، وتناولت قضايا الإنسان وكيفية حل مشاكله، كما نهضت بدور المعلم والمرشد والقائد وفقاً لقوانين وأخلاقيات متفق عليها ضمنت بقاء وسلامة أفراد المجتمع من الخطر وتأمين متطلبات بقائهم. ولابد أن يكون للخطاب الثقافي الوطني صوتا مسموعا في هذا الصدد ليكون في الإمكان استئصال كثير من المظاهر المتجذرة في أذهان أفراد مجتمعنا، لخلق فرص نمو اقتصادي يحقق التطور والاستقلال وإعادة الثقة لأمتنا وأبناء مجتمعنا وعلاج عقدة النقص أمام الآخر أو تقليده ومحاكاته في نزوع صارخ للتبعية، أو بالمقابل رفضه وإبداء مشاعر الكراهية له، وكأننا أمام جدلية غاية في الطرافة، بدلا من الانفتاح عليه والتفاعل الحقيقي معه. ولكي يتخلص المثقف من التبعية الفكرية لابد أن تكون رابطة انتمائه لوطنه تشكل لديه أقوى الحلقات، وأثبت الروابط، ومن هنا يمكن أن يكون المثقف متحررا فكريا من القيود الأيديولوجية أو القبلية، ويمكن بعدها أن يتفرغ فكريا وعاطفيا للمشاركة في التخطيط والإعداد لتطوير مجتمعه والارتقاء به.