خلال أيام عيد الفطر تلقيت تهنئة "جوالية" ملفتة، وهي لم تكن خاصة بي، فقد تلقاها مئات الناس، وأقول إنها ملفتة بسبب مرسلها فهو رمز له وزنه ومكانته، وبسبب هذه المكانة أردت أن تقرؤوها معي، ومرسلها سيسعده أن يعتبرها كل من يقرؤها موجهة له بصفة خاصة فهو من "رسل الحب ودعاة نشره بين الناس"، تقول الرسالة: "حاولت أن أكتب لك معايدة مبتكرة تعبر عن إحساسي الخاص تجاه روح شقيقة روحي وصنو نفسي فلم أجد أجمل من لغة الحب، وحاولت أن أرد جميلك فلم أجد أصدق من لغة الدعاء، أجدد حبي وأردد ابتهالاتي لربي، وأقدم قلبي تقرأ فيه سمو منزلتك ورسوخ قدرك فرفقاً بوعاء يحتويك". هذا الوعاء الذي "يحتويك" هو قلب الدكتور "المفكر" سلمان العودة، وصفة "المفكر" من عندي، وهو جدير بها، وقد وصفته بها منذ سنوات في النادي الأدبي بجدة، أما رسالته العاطفية التي أوردتها أعلاه، والتي تلقاها منه مئات الناس فيما أظن، فبغض النظر عن مستوى لغتها، فهي رسالة إنساني طبيعي، ومفكر طليعي يريد أن يقول: دعوا مشاعر ولغة الحب تسد بيننا سواء اتفقنا أو اختلفنا، فالإنسانية والدين والوطن كلها قواسم مشتركة تحتم علينا أن نحترم ونقدر هذه العلاقة الإنسانية والإسلامية والوطنية. تختلف أو تتفق مع فكر العودة وآرائه لكنك لا تملك إلا أن تحترمه، بل وتعجب به وتحبه، لسبب بسيط هو أنه يحترم نفسه وعلمه وفكره وقارئه ومستمعه، والمختلف معه وعنه من السابقين والمعاصرين، ولا يلتفت لشاتميه، بل ولا يعطيهم فرصة الإحساس أنهم أحياء يرزقون. العودة – كما هو واضح في كتاباته وبرنامجه التلفزيوني المعروف – يحترم جمهوره العريض لكنه لا يستجديه ولا يخدعه، يخاطب عقول الناس ولا يدغدغ عواطفهم. فهو مفكر وليس ناقلاً، يقرأ ويسمع ثم يتأمل ويستنتج ثم يقول رأيه المستقل بوضوح وصراحة. ومزايا العودة كثيرة لكن يهمني أن أشير إلى أبرزها في نظري، وهي التي جعلتني أعتبره مفكراً، وهي تتضح – تقريباً – في كل ما يكتب أو يقول، إذ إنه حين يعرض مسألة أو يجيب على سؤال ديني أو دنيوي يبدأ باستعراض آراء غيره حولها سواء كانوا من السلف أو المعاصرين، وسواء كانوا مسلمين أو غيرهم، ثم يختار أحدها مبدياً أسباب اختياره، أو يقول رأيه الجديد المختلف عما استعرض من آراء غيره موضحاً أسباب هذا الرأي، أي أنه يضع القارئ أو المستمع أمام كل الآراء والخيارات طالما أن المسألة مما لا مشاحة في الاختلاف حولها. وطالما أنها ليست من القطعيات في الدين أو الحياة. وهو مع إظهاره لآراء غيره يوردها بأدلتها وبكثير من الاحترام والتقدير، وكما قلت سابقاً وكما هو معروف وسائد، فإن العالم أو الفقيه أو المفكر أو المثقف لا يلام على رأيه فذاك حقه، لكنه يلام على تسفيه آراء الآخرين أو تغييبها أو اعتبار رأيه لا يقبل النقاش. وإذا كان كثيرون اعتبروا تحولات العودة وتطورات فكره وتغير بعض آرائه وفتاويه مثلبة، فإنني أعتقد أنها أعظم مناقبه التي تضعه في مصاف المفكرين المصغين لصوت عقولهم لا عواطفهم ولسلطة البحث والعلم والتأمل لا سلطة الجمهور. إن صفة العالم والشيخ صرفت في زمننا هذا لكثير من الحفظة الناقلين الذين لا يتأملون فيما يقرؤون أو يحفظون، ولا يمدون أبصارهم إلى أقوال وآراء أخرى، مما أفضى بهم إلى الارتهان تلقائياً للرأي الواحد وللمنجز الماضي لسهولة الأمر، فما أسهل الحفظ والنقل والترديد، وما أصعب التأمل والتفكير والاستنتاج، ومما جعلهم سبباً في جمود العلوم وتخلف الأمم، وزمننا وعصرنا – مثل كل زمن وعصر – يحتاج علماء وفقهاء متأملين مفكرين، لا حفظة ناقلين، فلولا التأمل والتفكير، لما كانت كشوفات العلم المذهلة المستمرة التي لن تتوقف عند وصول الإنسان إلى الفضاء، ولما كانت المذاهب الأربعة، ولما كان ابن النفيس وابن رشد وابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب وأمثالهم ولما كان الجاسر والعواد والقصيمي والغذامي، وغيرهم ولبقي سلمان العودة حلقة في سلسلة طويلة من الحفظة الناقلين الذين أودعوا عقولهم في غياهب التاريخ فكان طبيعياً أن يلفظهم عصرهم وينساهم الناس. العلماء والفقهاء والمثقفون الحقيقيون المفكرون هم بالضرورة علماء كل في ميدانه وتخصصه، وهم الذين يمثلون الإضافة الحقيقية للأمة والتاريخ، بما يفتحون من آفاق، وما يصنعون من أفكار، وما يضيفون من إضافات نوعية لسابقيهم تجعل جماهيرهم وأممهم بشراً يعيشون العصر بعقولهم، لا دمى تستجر الماضي. والعودة ومعه قلة قليلة من فقهاء المسلمين أنموذج لما يجب أن يكون عليه "الفقيه المفكر". فتدبروا وتأملوا وفكروا يرحمكم الله.