احتل الفقيه مكانة عالية يعرفها كل من يستقرئ التاريخ الإسلامي من جميع جوانبه السياسية أو الاجتماعية أو العلمية أو الاقتصادية، فهو يستند إلى تاريخ طويل كان صاحب الكلمة الأولى في المجال العلمي، كما كان المرجع في الملمات والقضايا كبيرها وصغيرها، ويحتاج إليه فئات الناس على اختلاف مستوياتهم في قضاياهم العامة والأشد خصوصية، حتى القرارات الكبرى كانت تصبغ بفتوى الفقيه، لذلك حملت لنا الفتاوى تاريخًا مفصلًا لواقع الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعلمية في التاريخ الإسلامي في كافة مراحله مما لم يستطع التاريخ المدون حمله. لكن هل بدأت هذه المكانة تتقلص وتضيق مساحتها في هذا العصر تاركة الأمر لشخصيات أخرى كشخصية المثقف أو المفكر. الواقع أن شخصية الفقيه لم تخل من المقابل أو المضاد أو المخالف، أو من له منهجية فكرية مغايرة لمنهجية الفقيه. وقد تكون مقابلة تضاد وقد تكون مقابلة تنوع وتناظر. فعندما ننظر في عهد التابعين واتباعهم نجد المقابلة بين الفقهاء والمحدثين، أو أهل الأثر وأهل النظر، أو مدرسة أهل الرأي ومدرسة أهل الحديث، وقد كان الحجاز مستقر مدرسة أهل الحديث أهل الأثر، والعراق مستقر مدرسة الفقهاء أصحاب الرأي، ولعل السبب وفرة المرويات الحديثية في الحجاز بسبب كثرة الصحابة فيه، وقلة الأحاديث بالعراق حتى اضطروا في بعض القضايا التي لم يجدوا فيها نصوصًا لاستعمال القياس، حتى جاء الإمام الشافعي فدرس على المدرستين ووجد أن عند كل منهما مزايا ليست عند الأخرى، ومن واقع هذه الرؤية ألف أول كتاب في أصول الفقه وهو (الرسالة). فالتقابل هنا تنوع وليس تضاد، فكلا المدرستين تجعل نصوص الكتاب والسنة مصدرين أساسيين كما يتفقان في عدد كبير من القضايا الأصلية. كما حصل تقابل بين الفقيه والصوفي، وقد اشمل هذا التقابل على تضاد وتنوع في آنٍ واحد، والصوفية الذين حصل بينهم وبين الفقهاء تضاد هم الذين اعتمدوا مصادر غير المصادر الشرعية التي يعتمدها الفقهاء، فهم يعتمدون على الذوق والرؤى والوجد كمصادر تشريعية، كما حصل الخلاف بين الفريقين في معالجة قضايا المجتمع، فبينما يرى الصوفية أن الحل في التزهد المطلق، وترك الانغماس في حياة الناس ومشكلاتهم، والانعزال النفسي والبدني قدر المستطاع، تأتي معالجة الفقهاء مختلفة حيث يفسرون الزهد تفسيرًا لا يخرج الإنسان عن معاركة الحياة والخوض فيها، ويجعلونه مراتب، لكن حتى أعلاها لا يخرج الإنسان عن العيش مع البشر والتعامل بتعاملاتهم، ثم تنصب معالجة الفقهاء على تصحيح التعاملات الخاطئة في حياة الناس، وبيان أحكام الشرع فيها. فهل حصل اختلاف في هذا الزمان؟ هل ضعف دور الفقيه وقل تأثيره، هل تغير الزمان لدرجة أن الفقيه بما يملك من أدوات معرفيه لم يعد قادرًا على مواجهة المستجدات والمتغيرات، مما يعني الحاجة لوجود شخصيات أخرى قادرة على استيعاب المتغيرات. إن غربة الفقيه أولًا من غربة الدين في حياة الناس، فعلى قدر قربهم من الدين أو بعدهم عنه ترتفع أو تنخفض منزلة الفقيه لديهم. لا شك أنا نعيش في واقع معقد متداخل متشابك، وقد حدثت فيه تطورات فكرية وفلسفية وعقائدية بصورة لم تعهدها الأمة من قبل تزامنت مع وجود الاستعمار الذي أنهك الأمة وجزأها واستهلك ثرواتها وزرع فيها من الفتن ما زرع قبل رحيله، مما ولد أسئلة وإشكالات طرحت بلغة مغايرة لما كان معروفًا في الطرح العلمي أو الثقافي لدى المجتمعات الإسلامية، إشكالات ونقاشات شاملة للتصورات والأفكار متغلغلة حتى في التكوين الفكري والعقائدي لحامليها مما جعلهم يسعون لطرح مخالف للإسلام بل ويحملون على الإسلام حملة نكراء تدعو لإقصائه من حياة الناس، وإحلال إحدى الأيدلوجيات الشائعة مكانه، مما ولد الحاجة لوجود مفكر تكون مرجعيته إسلامية من جهة ومن جهة أخرى يكون لديه استيعاب للصراعات الفكرية الحادثة وإلمامًا بمصطلحاتها وإدراكًا للغتها وأساليب نقاشها، فوجد لدينا مفكر إسلامي كما وجد كذلك نتيجة للتأثر بالتيارات العالمية مفكر اشتراكي أو مفكر قومي، وكان كل يطرح تبعًا لخلفيته الفكرية ومرجعيته الثقافية. فكان الاشتراكي مثلًا يبشر بالاشتراكية داعيًا الناس لاتباعها فهي الجنة الموعودة على الأرض، وفي الوقت ذاته لا يكف عن مهاجمة الإسلام وكيل التهم الباطلة إليه، بينما كان المفكر الإسلامي يقف في وجه هذه التهم يفندها ويناقش أصحابها ويبين عوار كلامهم، وربما تأثر البعض بشيء من تلك الجدالات فتبنى وجهة نظر اشتراكية أو غيرها وهو لا يشعر، وهذه طبيعة الجدال، فقد يتبنى المرء بعض أقوال خصمه لأنه يقترب منها كثيرًا وقت النقاش فيتلبس بها وهو لا يشعر. فكان المفكرون الذين ينتمون لهذه الايدولوجيات المخالفة يهاجمون الفقهاء ضمن خطة هجومهم على الإسلام، وعدائهم لهم ضمن عدائهم للدين، ففي القضاء على شخصه إضعاف للدين، وكيف يعرف الناس دينهم إذا لم يكن بينهم من فقهاء، وقتها تلبس أي قضية بلبوس الدين وتقوم للناس على أنها من دينهم فيأخذون بها وهم لا يشعرون. حتى المفكر الإسلامي لم يسلم منه الفقيه، مع أن علاقتهما ينبغي أن تكون علاقة تكامل لا تضاد، فكل يعمل في حقله، والمحصلة النهائية خدمة هذا الدين، ولا أعمم على جميع المفكرين الإسلاميين، فهناك أفراد منهم هاجموا الفقهاء، وقد غالى بعضهم في هجومه فجعل عقلية الفقهاء ومنهجيتهم هي السبب الأكبر في تخلف الأمة، ولذلك لا مخرج للأمة إلا بتغيير هذه العقلية ومنهجيتها في التفكير، ومنهم من كان أقل حدة لكنه اتهم الفقهاء بالبعد عن قضايا الأمة المفصلية والعكوف على قضايا جزئية، حتى وصفوا الفقهاء بأنهم علماء الحيض والنفاس وأنهم بعيدون كل البعد عن قضايا العصر. وقد كان سبب هذا الهجوم تأثر بعض المفكرين الإسلاميين بالجدالات مع المخالفين، وانغماس بعضهم في القضايا الفكرية حتى يراها كل شيء، بينما غيرها يكون هامشيًا في وجهة نظره، حتى كانت لبعضهم آراء غريبة حول تجديد الفقيه وتكوين الفقيه. إن تبادل الأدوار والتكامل بين المفكر والفقيه هو المطلب الملح لمعالجة مشكلات الواقع المعقدة المتشابكة، ولكن من يستطيع فهم هذا أو استيعابه. ينبغي لكل منهما أن يتوجه لدائرة اختصاصه التي يتقن علاجها، فإذا تداخلت الدائرتان عرفا بحنكة كيف يديران هذه المنطقة المشتركة بينهما، وأيهما أولى بأن يبدي رأيه فيها إن احتاج لرأي واحد أو يبدياه سويًا بدون تضاد بينهما ما استطاعا إلى ذلك سبيلًا. وقد يقال: ألا يمكن تقابلهما في مناطق مشتركة، أم أنهما على طرفي نقيض لا يمكن أن يلتقيا أصلًا. أو يقال: ألا يمكن أن يكون المفكر فقيهًا أو الفقيه مفكرًا فيكون تناول القضايا يحمل البعدين فيزول الإشكال. الحقيقة أن الفقيه يختلف عن المفكر من حيث أدواته المنهجية وتكوينه المعرفي فالفقيه مأخوذ من الفقه الذي هو مصطلح شرعي بالأساس وقد أخذ هذا اللقب لكونه مبينًا للأحكام موضحًا للحلال والحرام فوظيفته بيان حكم الشريعة على المسائل النازلة بالناس والحوادث الطارئة فيهم، حتى سماه ابن القيم موقعًا عن رب العالمين، ولنرجع لشروط المجتهد الذي يمثل الذروة في المرتبة الفقهية لنعرف التكوين المعرفي لدى الفقيه نجد الأساس والأصل والأهم في ذلك هو علمه بالكتاب والسنة، حتى العلوم الأخرى المطلوب من الفقيه تحصيلها إنما الغرض منها فهم الكتاب والسنة كعلوم اللغة وأصول الفقه وغيرها. ثم قد رسم له أصول الفقه المنهجية التي يسير عليها في تناول الأحكام، فالفقيه لا يسير عبثًا أو كلما ارتأى أمرًا أفتى به، فهو لا يصدر إلا عن منهجية شرعية لا عن مجرد هوى أو تأمل. بينما التكوين المعرفي لدى المفكر قد يساهم فيه عدد من العلوم التي تثري ثقافته حول القضايا التي يتناولها، وهو غالبًا يلامس المعلومة دون الغوص فيها لأن هذه وظيفته، وقد تتشكل بنيته المعرفية من معارف متعددة كعلوم السياسة والاجتماع والفلسفة والأدب وغيرها حتى تكتمل لديه الصورة حين يريد توصيف قضية معاصرة أو يقوم بطرح حلول لها. كما أن الأدوات المنهجية والتحليلية قد تختلف من مفكر لآخر فبينما يعتمد بعض المفكرين على بعض المناهج الفلسفية، يحاول الآخر إيجاد منهجيته الخاصة في تناول القضايا، بينما يحاول المفكر الإسلامي تأصيل فكرته بمنهجية شرعية وهكذا. وقد لا ينطلق من منهجية وهذا هو حال كثيرين، بل يتأمل في القضية ثم يصدر عن قناعته الخاصة أو ما تميل إليه نفسه. إن مجرد التأمل والتفكر أيسر بمراحل من التعلم والبحث عن الاستدلالات والحجج والبراهين، ومن السهولة بمكان على أي إنسان مهما كانت إمكاناته الثقافية متواضعة أن ينتقي رأيًا من بين آراء متعددة، أو ينشئ رأيًا مستقلًا طالما كان بمنأى عن المطالبة بالأدلة والبراهين التي عنها صدر رأيه. كما أن من إشكاليات الفلسفة أنها تمنح دارسها إحساسًا بالقدرة على تقديم رأيه في كل قضية، وأنه بأدواته الفلسفية أقدر على تقديم الرأي الأصوب، كيف لا وهو يتكلم في أعقد الأمور، فما بالك بما دونها. لذلك إذا لم ينضبط الفكر بالكتاب والسنة، فالفوضى نتيجة حتمية له، كما أنه مع انضباطه بالنصوص ورجوعه للفقهاء فيما يتعلق بأمور الشريعة، وجعل العالم والفقيه عضدًا ونصيرًا له، يحقق بإذن الله الرؤية السليمة.