محمد بن عبداللطيف آل الشيخ - الجزيرة في صحيفة (عكاظ) الصادرة يوم الخميس الماضي ورد هذا الخبر: (عاقبت المحكمة الجزئية في جدة مقيماً هندياً بالسجن شهرين و50 جلدة لإدانته بمحاولة الانتحار. ووافق المتهم على الحكم كما أقره المدعي العام ليصبح حكماً نهائياً واجب التنفيذ. وكان مواطن قد أبلغ الجهات المختصة بمحاولة انتحار الهندي. وعند التحقيق معه اعترف بمحاولته الانتحار عدة مرات، فأحاله المدعي العام للمحكمة مطالباً بتعزيره بالسجن والجلد(!). ويُعلق المستشار القانوني الدكتور عمر الخولي على الواقعة بالإشارة إلى أن الأولى بجهة التحقيق إحالته للطب النفسي لفحصه وعلاجه). هذا الحكم (الغريب) إذا ما قارناه بالتهمة، ناهيك عن أصل (الادعاء)، غير مبرر لا شرعاً ولا عقلاً؛ وأرجو أن تكون هناك خلفيات لهذه القضية لم يتطرق لها الخبر؛ وإلا فالحكم بكل ما تحمله الكلمة من معنى (مُجحف).. من الواضح أن الرجل مصابٌ إما (بمرض) نفسي أو عقلي؛ فالحياة أغلى ما يحرص عليه الإنسان السوي؛ وعندما يُفرط في الحذر مما قد يشكل علي حياته خطراً، فضلاً عن أن يسعى بنفسه عامداً إلى إزهاقها عدة مرات كما في الخبر، فهو (مريض نفسي) يتطلب أن يُحال إلى مُتخصص لعلاجه، لا أن يحاكم ويُسلخَ ظهرُه بالسياط.. والأمراض النفسية - كما هو معروف - تؤثر على العقل وعلى التحكم بالإرادة واستقامة الإنسان، والطب النفسي أصبح تخصصاً علمياً متفرعاً عن الطب، والقاضي - في تقديري - أحوج ما يكون لاستشارة الطبيب النفسي أكثر - ربما - من حاجته للمتخصصين في فروع الطب الأخرى؛ فلماذا لم يأخذ القاضي برأي الطب النفسي قبل أن يحكم؟ ثم إن (العقوبة) في الشريعة هي أداة ردع، وفي الوقت نفسه أداة إصلاح وتقويم للفرد، وحماية للمجتمع من انحرافات بعض أفراده، يتم إيقاعها إمّا من خلال إيلام المُعاقب جسدياً - الجلد مثلاً - أو نزع بعض حقوقه، سواء كان هذا الحق مالياً عن طريق (الغرامة) أو تقييد حقه في الحرية من خلال (السجن) لمدة محددة؛ فكيف يكون حكم (الجلد) هنا رادعاً أو إصلاحاً أو تقويماً لهذا المسكين؟؛ هذا إذا تجاوزنا الحكم بالسجن، على اعتبار أنه (قد) يكون حماية له من نفسه؛ مع أن الحكم بتقييد الحرية إذا كان المريض في حاجة إليها، يجب - أيضاً - أن يصدر بعد استشارة الطبيب النفسي. صحيح أن الدين القيم يُجرم الانتحار، أو حتى الشروع في الانتحار، ولكن المتهم هنا (مريض)، والأولى علاجه لا جلده. والمشكلة هنا أن المتهم (المسكين) قَبلَ بالحكم، كما أن المدعي قبل به أيضاً، ليصبح حُكماً نهائياً؛ حيث إن (قبول) طرفي القضية - المدعي والمُدعى عليه بالحكم القضائي لا يتطلب في أغلب القضايا أن ترفع إلى جهة قضائية أعلى لإمضاء الحكم حسب النظام المتبع في المملكة. وأجد من الضرورة بمكان أن تقوم (المحكمة الجزئية) في جده بتوضيح ملابسات وخلفيات هذه القضية، طالما أن الأصل في الأحكام القضائية هو (العلنية)؛ سيما إذا كان الخبر ناقصاً، أو مبتوراً، أو تكتنفه بعض التساؤلات؛ أو أن هناك جوانب أخرى أو حيثيات لم يتطرق لها الخبر المنشور في عكاظ. وختاماً أقول: كان أجدادنا عندما يريدون أن يُعبّروا عن التصرف (غير الحكيم) تجاه أي قضية حياتية يقولون: (مجنون وطق بعصا)؛ ولا أجد مثلاً ينطبق على هذه القضية - حقيقة لا مجازاً - أدق من هذا المثل. إلى اللقاء.