لست مع الذين يتحدثون عن «حراك سياسي» تشهده المنطقة هذه الأيام. لأن ما يجري مشكوك في براءته، إذ تشير دلائل عدة إلى أن ملعوبا من العيار الثقيل يتم تحضيره من وراء ستار، يوقع العرب في شر أعمالهم. (1) خلال الأسبوعين الأخيرين ظل خمسة على الأقل من كبار المسؤولين الأمريكيين يتحركون بشكل حثيث في الفضاء العربي، متنقلين بين القاهرة وتل أبيب وعمان والرياض والبحرين. ولم يفت بعضهم أن يمر على دمشق وبغداد وصنعاء. وهؤلاء لم يكونوا سياحا بطبيعة الحال ولكنهم كانوا في مهمة واحدة، تتعلق بالطبخة التي يجرى إعدادها. الخمسة هم: روبرت جيتس وزير الدفاع الجنرال جيمس جونز مستشار الأمن القومي روبرت ميشيل مبعوث الرئيس أوباما إلى الشرق الأوسط الجنرال ديفيد باتريوس قائد القيادة المركزية جيفري فيلمتان مساعد وزير الخارجية. حين يتقاطر الخمسة على المنطقة في وقت متقارب لكي يخاطبوا قادتها، فذلك يعني أن ثمة حدثا كبيرا استدعى ذلك. وحين يجتمع الثلاثة الأخيرون دفعة واحدة مع ملك البحرين يوم الثلاثاء الماضي (28/ 6)، فإن ذلك يثير الانتباه ويضيف المزيد من علامات الاستفهام حول الذي يجري. التصريحات المقتضبة والتسريبات الصحفية سلطت الضوء على موضوع هذه التحركات. ومنها عرفنا أن جهدا غير منظور سبقها خلال الأشهر الأخيرة، مركزا على عنوانين أساسيين هما: ملف الصراع العربي الإسرائيلي والمشروع النووي الإيراني. حيث لم يعد سرا أنهما يحتلان موقعا بارزا في السياسة الخارجية الأمريكية بالشرق الأوسط، كما أنهما يمثلان أهمية وجودية بالنسبة لإسرائيل. أما كيف تم تناول كل من العنوانين، فتلك قصة يطول شرحها. (2) أثناء حملته الانتخابية، وقبل اختياره رئيسا، ألقى المرشح الديموقراطي آنذاك باراك أوباما خطابا مؤثرا أمام اللجنة العامة الأمريكية الإسرائيلية (إيباك)، تعهد فيه بأن يعمل على أن تكون القدس عاصمة موحدة لإسرائيل. وهو ما قوبل بحماس شديد، لأنها كانت المرة الأولى التي يعلن فيها مرشح ديموقراطي مثل ذلك التعهد، الذي ظلت الإدارة الأمريكية تتعامل معه بحذر وتحفظ. وحين تولى أوباما السلطة بعد ذلك، بدا وكأنه يريد أن يضع أسسا جديدة للعلاقة بين واشنطن وتل أبيب. وكان حل الدولتين إحدى الأفكار الأساسية التي ركز عليها وقتذاك. وبدت تلك إشارة أولى إلى الاختلاف مع سياسة حكومة نتنياهو التي انتخبت على أساس برنامج يرفض صراحة وبصورة قطعية فكرة الدولة الفلسطينية، ولا يتحدث إلا عن حكم ذاتي وتنمية اقتصادية للفلسطينيين ولأن الذي يضع السياسة في الولاياتالمتحدة هو الكونجرس وليس الرئيس، ولأن النفوذ الإسرائيلي لم يفقد قوته في مجلسي النواب والشيوخ. فإن جهدا كبيرا بذل لمحاصرة الرئيس أوباما وإجهاض فكرته. لسنا نعرف تفاصيل ما جرى وراء الكواليس خلال الأشهر الأولى في ولاية الرئيس أوباما، لكننا نعرف الآن أمرين، الأول أن الرئيس الجديد اعتمد بعد ذلك لغة مختلفة تحدث فيها عن ضرورة أن تكون كل الأطراف مستعدة لدفع «ثمن السلام» والثاني أن فكرة الدولتين سقطت من خطابه، بحيث لم يعد يذكرها، وبرزت في الأفق صيغة جديدة اعتبرت ترجمة لفكرة الثمن الذي يتعين على الجميع دفعه. وفي طرحه الجديد فإن أوباما دعا إلى وقف أو تجميد بناء المستوطنات. على أن يتوازى ذلك على شروع الدولة العربية في عملية التطبيع مع إسرائيل. عرفنا في وقت لاحق أن فكرة التطبيع مقابل التجميد التي ظهرت في الأفق وراءها جهد كان لمنظمة «إيباك» نصيب فيه، أقله في الشق المتعلق بالتطبيع، فقد ذكرت وكالة أنباء «أمريكا إن أرابيك» (في 30/ 7) أن «إيباك» أعدت خطابا موجها إلى الملك عبدالله بن عبدالعزيز طالبه بالتطبيع مع إسرائيل. وهذا الخطاب تم التوقيع عليه من جانب200من أعضاء الكونجرس، دعوا العاهل السعودي إلى التحرك قدما نحو القيام ببادرة دراماتيكية تجاه إسرائيل، مشابهة للخطوات التي اتخذتها مصر والأردن. عرفنا أيضا أن ثمة حملة لجمع توقيعات مشابهة في مجلس الشيوخ على رسالة طالبت الرئيس أوباما بالضغط على الدول العربية لتقديم مبادرات تهدف إلى إنهاء المقاطعة العربية لإسرائيل، مما يؤدي إلى تحقيق التعاون العربي بين الطرفين في مختلف المجالات. هذا الجهد لم يذهب هباء، لأن مجلة «فورين بوليسي» ذكرت في 28/ 7 أن الرئيس أوباما بعث بخطابات خطية إلى زعماء 7 دول عربية دعاهم فيها إلى اتخاذ إجراءات «لبناء الثقة» مع إسرائيل، مقابل الضغط عليها لإيقاف الاستيطان. وذكرت المجلة أن من بين الدول السبع التي وجهت إليها الرسالة قادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر والأردن. كان تقرير سابق لمجلة «فورين بوليسي» قد كشف أن الرئيس الأمريكي حاول إقناع الملك عبدالله بالتقارب مع إسرائيل في الوقت الذي يضغط على قادتها من أجل تجميد المستوطنات، إلا ان العاهل السعودي رفض مطلب أوباما، معللا ذلك بأن العرب قدموا ما يكفي من التنازلات للدولة العبرية دون أن يلقوا لذلك مقابلا. وقالت المجلة الأمريكية نقلا عن مسؤول سعودي إن الشيخ سليمان بن حمد آل خليفة ولي عهد البحرين، ذهب إلى الرياض ليستأذن الملك عبدالله قبل أن ينشر مقالا بصحيفة «واشنطن بوست الأمريكية» يوم الأحد 19 يوليو دعا فيه العرب إلى الحوار مع إسرائيل. وأضافت أن الملك السعودي حذر الأمير البحريني من التمادي في عرض تنازلات على إسرائيل. (3) يلفت النظر في هذا السياق ثلاثة أمور؛ الأول أن موضوع وقف الاستيطان أو تجميده صار محل خلاف بين واشنطن وتل أبيب، رغم أن الفكرة شريرة من أساسها. لأن هناك حكما لمحكمة العدل الدولية قضى ببطلان بناء المستوطنات على الأراضي المحتلة بمقتضى نصوص القانون الدولي. ولذلك كان الحديث أصلا عن تفكيك المستوطنات وليس وقفها أو تجميدها. ولا ينسى في هذا الصدد أن إسرائيل لديها ما لا حصر له من الوسائل للتحايل على الوقف، فهي تفرق بين المستوطنات الشرعية وغير الشرعية (رغم أن جميعها غير شرعي) وقد توقف المستوطنات الجديدة في حين تسمح بالتوسع في المستوطنات القائمة بحجة مواجهة متطلبات النمو العادي للسكان (الذي يحظر على العرب في إسرائيل). ولن تعدم وسيلة للاحتجاج بأنها ليست سلطة محتلة ولكنها تبني فوق ما تسميه «أرض إسرائيل» الأهم من هذا كله وذاك أن برنامج حزب الليكود الذي صوت له الناخبون ينص صراحة على أن الحزب سيعمل على تعزيز الاستيطان ومنع التراجع عنه، لأنه تعبير عن حق اليهود غير القابل للمساومة في البناء على أرض إسرائيل، فضلا عن أنه من مستلزمات حماية أمن إسرائيل. الأمر الثاني المهم أن الاحتلال لم يذكر الاستيطان في كل الأطروحات الجارية، علما بأن الاستيطان يعد مصدرا أساسيا لتكريس الاحتلال ومن ثم فهو جزء من المشكلة وليس أصلا لها. ولا شك أن وقفه يحد من نطاق الجريمة، لكنه لا يلغيها. لكن حين تختزل المشكلة في العمل على وقف بناء المستوطنات فإن ذلك يهون من شأن القضية. ناهيك عن أنه يضيف بعض الشرعية على المستوطنات التي تم بناؤها فعلا. يوما ما كنا نتحدث عن أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وكانت لنا «لاءات» ترفض حتى التفاوض مع المحتل. لكن التراجعات استمرت لاحقا. فتحدثنا عن أن السلام خيارنا الاستراتيجي (إسرائيل لم تقل بذلك حتى الآن). ورفعنا شعار الأرض مقابل السلام، الذي كان يعني: أعطونا ما تم احتلاله سنة 67 نُقم معكم سلاما. ثم عقدت مصر والأردن معاهدتي سلام مع إسرائيل في حين ظل الاحتلال مستمرا لبقية الأراضي التي احتلت عام 67 (في فلسطين والجولان). ودخلنا بعد ذلك في طور الكلام مقابل السلام. الذي بمقتضاه تم وقف المقاومة لكي تستمر المفاوضات في «عملية» لا تتوقف ولا سقف زمنياً لها. وأخيرا صار المعروض علينا يختزله شعار التطبيع مقابل التجميد، الذي يعني تجاهل الاحتلال الذي هو بيت الداء وأصل كل البلاء. وفي الوقت ذاته التنازل عن فكرة المقاطعة التي هي آخر ورقة ضغط على إسرائيل. الأمر الثالث المدهش حقا، أن الملعوب انطلى على بعض القادة والسياسيين العرب، الذين أصبحوا يتحدثون بنفس اللغة تقريبا، مشددين على أنه لا تطبيع في ظل استمرار الاستيطان. حتى السيد عمرو موسى أمين الجامعة العربية قال هذا الكلام. وهو يعلم وكل القادة العرب يعرفون جيدا أن المبادرة العربية اشترطت للتطبيع أن يتم الانسحاب الكامل من الأراضي العربية بما في ذلك الجولان السورية حتى خط الرابع من يونيو 67، والأراضي التي مازالت محتلة في جنوب لبنان». (4) بعدما أصبحت غاية المراد في الموضوع الفلسطيني أن تستأنف المفاوضات في ظل التطبيع والتجميد المؤقت للاستيطان، بحيث تتواصل «عملية السلام» ويستأنف الكلام إلى أجل مفتوح، فإن الشغل الجاد بات مطلوبا في ملف إيران. وفي ظل التهوين من الشأن الأول والتهويل في الشق الثاني، أصبح ما سمي «بالخطر الإيراني» هو القضية المركزية للعالم العربي. ولأن الأمر كذلك فإن التفاهمات أصبحت صيغة التعامل مع الملف الأول الذي غدا تحقيق «السلام» هدفا وحيدا له. في حين أن الإجراءات صارت مدخلا للتعامل مع الملف الثاني الذي أصبح العمل العسكري خيارا واردا فيه. من الإشارات الأولى للاحتشاد العسكري في مواجهة إيران، ما صرح به الجنرال ديفيد باتريوس قائد القيادة المركزية بعد اجتماع في القاهرة مع الرئيس مبارك استمر 90 دقيقة (في 29/ 6). قائلا إن واشنطن استضافت اجتماعا لرؤساء أركان الحرب في دول لم يسمها، وأشار فقط إلى مشاركة رئيس الأركان المصري فيه. ونوقشت في ذلك المؤتمر القضايا المتعلقة بإجراءات بناء الأمن الإقليمي. من الأشارات الأخرى التي شدت الانتباه في هذا السياق ما صرحت به وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون في بانكوك عاصمة تاياند (يوم 11/ 7) من أن الولاياتالمتحدة تعتزم نشر خطة دفاعية نووية تشمل منطقة الخليج ومصر، لطمأنة إسرائيل ولتهدئة مخاوف الدول العربية من النشاط النووي الإيراني. ونشرت صحيفة «الشروق» في 30/ 7 أن البحرين ستكون مقرا للكيان المقترح (هل كان لقاء المسؤولين الأمريكيين الثلاثة مع ملك البحرين لهذا الغرض؟). لا يفوتنا أن نلاحظ في هذا السياق أن مصر سمحت لأول مرة بعبور مدمرتين إسرائيليتين لقناة السويس، الأمر الذي اعتبره المراقبون رسالة تحذير لإيران موجهة إليها من إسرائيل ومصر. ليس معروفا ما إذا كانت واشنطن بهذه التحركات تريد أن تطمئن إسرائيل وتمنعها من القيام بعمل عسكري ضد إيران، أو أنها تعد العدة للاشتراك معها في العمل العسكري المفترض. ولكن الذي نعرفه يقينا أن كل هذه الترتيبات تصب في المصلحة الإسرائيلية بالدرجة الأولى، إذ التطبيع أمل تتطلع إليه إسرائيل منذ زرعت في قلب الوطن العربي، وإيقاف المشروع النووي الإيراني وتعبئة العالم العربي ضد طهران حلم لها مارست كل ما استطاعت من ضغوط وألاعيب لتحقيقه. وإزاء تلك النقاط التي تسجل لصالح إسرائيل لم يكن مستغربا أن نقرأ في مانشيت الأهرام يوم 17/ 7 أن أوباما يقدر مساندة مصر لتحقيق السلام الشامل للمنطقة. هل هذه الشهادة تعد اضافة الى رصيدنا أم خصما عليه!