شهد الأسبوع الماضي وهذا الأسبوع حدثين لافتين. الأول اتهام رئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، فاروق القدومي، للرئيس الفلسطيني، محمود عباس، بأنه تآمر قبل سنوات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، أرييل شارون، لقتل الرئيس الراحل ياسر عرفات. وأعلن القدومي أنه يملك ما يعتبره وثيقة تؤكد الاتهام، وأن الرئيس الراحل هو الذي أعطاه هذه الوثيقة. الحدث الثاني كان التجاذب العلني بين إدارة أوباما الأميركية، وحكومة نتانياهو الإسرائيلية حول الاستيطان، وتحديداً حول قرار الحكومة الإسرائيلية الأخير ببناء عشرين وحدة سكنية في حي الشيخ جراح في القدسالشرقية. وكانت وزارة الخارجية الأميركية قد أثارت الأسبوع الماضي مع السفير الإسرائيلي، الذي لم يقدم أوراق اعتماده بعد، انزعاجها من هذا القرار، وآثاره السلبية على إمكانية استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين، وبالتالي مطالبتها بوقف العمل في هذا المشروع. وقد جاء رد فعل نتانياهو على موقف الإدارة سريعاً وحاسماً. قال نتانياهو في جلسة مجلس الوزراء الأحد الماضي "أود إعادة التأكيد (هكذا) على أن القدس الموحدة هي عاصمة الشعب اليهودي (هكذا أيضاً)، وعاصمة دولة إسرائيل، ولا يمكن التشكيك في سيادتنا عليها. وهذا يعني أنه بإمكان كل سكان القدس شراء شقق في أي جزء من أجزاء هذه المدينة". يحمل الحدث الأول، أو اتهام القدومي، أكثر من دلالة على أن الانقسام الفلسطيني عملية مستمرة، وأنها أصبحت مرشحة لأن تذهب في ذلك إلى ما هو أبعد مما قد يبدو عليه الأمر في هذه المرحلة. بل إن اتهام القدومي، مضافة إليه اللغة المصاحبة للصدام بين "فتح" و"حماس"، يؤكد بأن خطاب القضية الفلسطينية يتعرض لعملية تفسخ غير مسبوقة. فالانقسام لم يعد أفقياً بين الفصائل، بل يأخذ منحى عمودياً داخل الفصيل ذاته، وهو ما يحصل حالياً لحركة "فتح". دلالة التفسخ في اتهام القدومي أنه يعبر عن حالة إحباط وفشل، أكثر مما يعبر عن قضية حقيقية ومشروعة. فحجم ومصداقية المعطيات التي ساقها القدومي لتأكيد صحة اتهامه للرئيس أبو مازن لا يتناسب أبداً مع حجم الاتهام وخطورته. والحقيقة أن القدومي لم يقدم إلا معطى واحداً، وهو ما اعتبره وثيقة مكتوبة عن محضر الاجتماع الذي يقول إنه جمع أبو مازن ومحمد دحلان مع شارون. هناك سؤال أولي: ما هو مصدر هذه "الوثيقة"؟ وما هي مصداقية هذا المصدر؟ هل هو مصدر فلسطيني أم مصدر إسرائيلي؟ يقول القدومي إنه حصل على الوثيقة من الرئيس الراحل عرفات نفسه. لكن من أين حصل عليها عرفات؟ ولماذا لم يعطها إلا للقدومي؟ لم يكن القدومي من القيادات المقربة من عرفات. والمفترض أن وثيقة بهذه الأهمية والخطورة كان يجب أن تكون متاحة لأهم قيادات "فتح"، وقيادات السلطة، خاصة تلك التي لا علاقة لها بالاتهام الذي تتضمنه، وذلك من أجل تدارك الموقف. وهنا يبرز السؤال الأهم: لماذا لم يتم التحرك حينها، وانطلاقاً مما تتضمنه "الوثيقة"، لوقف المؤامرة، وإنقاذ عرفات من براثنها؟ بدلا من ذلك احتاج القدومي إلى خمس سنوات للتأكد من صحة "الوثيقة". وهذا يدل على أنه كان يشك في صحة "الوثيقة"، رغم أنه حصل عليها من القائد الأول للسلطة. ثم ما هي هذه "الوثيقة" التي تحتاج إلى خمس سنوات للتأكد من صحتها؟ الأسوأ أن القدومي بهذا الانتظار سمح للمؤامرة أن تأخذ مجراها بسهولة ويسر، وأن تحقق هدفها، وهو قتل عرفات. من الممكن في هذه الحالة توجيه الاتهام للقدومي بالتقصير الفاحش في حماية قائد الثورة. حالة التفسخ الداخلي لا تسمح للطرف الفلسطيني بانتزاع اتفاقية تحفظ له الحد الأدنى. وهذه الحالة تؤكد لإسرائيل أنها ليست بحاجة لاتفاقية كهذه. ماذا تعني هذه المعطيات والتساؤلات؟ هي لا تعني تبرئة ساحة أبو مازن من التقصير، بل وربما من الانحراف. وهي بالتأكيد لا تعني التقليل من خطأ في الخيارات السياسية التي يأخذ بها. هناك مثلا تنسيق أمني واضح بين السلطة بقيادة أبو مازن وبين الإسرائيليين. وهذا يحصل اتساقاً مع تخلي السلطة عن خيار المقاومة، وتبنيها لخيار المفاوضات. وليس هناك أدنى شك في فشل هذا الخيار حتى الآن، والأرجح فشله حتى في المدى القريب. لكن كل هذا شيء، واتهام أبو مازن بالتآمر مع الإسرائيليين لاغتيال عرفات شيء آخر. وبالتالي فإن المعطيات والتساؤلات السابقة لا تعني على الأرجح إلا شيئاً واحداً، وهو أن القدومي لجأ إلى تفجير هذه القنبلة المدوية من أجل لفت الأنظار، وإثارة الرأي العام الفلسطيني ضد السلطة، وضد أبو مازن تحديداً. وليس الهدف من ذلك، كما يبدو، إطلاق عملية تحقيق قضائية، لكشف المؤامرة والمتآمرين، لأنه لا يبدو أن وراء القنبلة شيئا ذا أهمية أكثر من النقع الذي أثارته. الهدف في الغالب هو إطلاق عملية سياسية تسمح للقدومي أن يستعيد مكانه الذي يرى أنه يستحقه في الصراع، وفي السلطة الفلسطينية، وأن يكون له دور ومكانة تتناسب مع حقيقة أنه كان من مؤسسي حركة "فتح" مع أبو عمار، وأبو إياد، وأبو جهاد، وأبو مازن. كل هؤلاء حصلوا من تاريخ القضية على ما يتناسب مع تاريخهم ومع أدوارهم، إلا أبو اللطف أو القدومي. ظل دور أبو اللطف يتعرض للتهميش منذ أيام عرفات. وهو دور ارتبط بشكل أساسي بعلاقات أبو القدومي مع البعثيين. تراجع "البعث" المستمر أدى إلى تراجع مواز لدور أبو اللطف. إذا كان هذا هو المسار الذي انتهى بإطلاق قنبلة الاتهام، وهو الأرجح، يكون القدومي قد أطلق واحدة من علامات فشل الثورة الفلسطينية. وهو للحقيقة فشل يتحمل الجميع مسؤوليته، بمن في ذلك أبو مازن. الآن قارن ذلك مع دلالات الحدث الثاني. يقف نتانياهو، اليميني المتطرف، بصلافة لا تخطئها العين أمام الولاياتالمتحدة الأميركية، الدولة التي تعتمد عليها إسرائيل ليس فقط في سياساتها، وفي أمنها، بل وفي وجودها أيضاً. ورغم ذلك لا يجد رئيس الوزراء الإسرائيلي من يختلف معه من بين خصومه الإسرائيليين، ومنهم من يختلف معه في مبادئه وسياساته. شمعون بيريز، الرئيس الإسرائيلي من حزب "العمل"، والذي يتحدث كثيرا عن فوائد السلام، يلوذ بالصمت. رئيس الوزراء السابق، إيهود أولمرت من حزب "كاديما" والذي يقال إنه يمثل الوسط، يعلن خطأ أوباما في تشديده على ضرورة وقف الاستيطان. هناك إجماع إسرائيلي على ضرورة التوصل إلى تفاهم مع إدارة أوباما حول موضوع الاستيطان. لكن هناك إجماعا أيضاً على أن هذا التفاهم لا يجب بأي حال من الأحوال أن يفضي إلى وقف الاستيطان، وخاصة في القدس. بعبارة أخرى، هناك إجماع إسرائيلي على أنه إذا كان هناك من خيار بين قبول وقف الاستيطان، أو الصدام مع الأميركيين، فإنه لا مناص في هذه الحالة من الصدام. بل وصل الأمر بالنائب عن "كاديما"، أوتينيل شنيللر، أنه شبه مطالبة أوباما بوقف الاستيطان بالتدمير الأول والثاني للمعبد، وذلك في رسائله التي بعثها للمنظمات اليهودية في أنحاء العالم مطالباً إياها بالمساعدة في وقف سياسة أوباما. يقول في إحدى هذه الرسائل ما نصه "دولة عظمى -سمها روما، اليونان، أو ما شئت- جاءت ودمرت أسوار الشعب اليهودي في القدس، وأخذت معها رمز السلطة اليهودية في هذه المدينة، أو المعبد المقدس. اليوم في القرن ال21 تحاول القوة الأعظم في العالم أن تشكك في أسوار سلطتنا في القدس. مجرد التفكير في ذلك يصيبني بالرعشة، رغم معرفتي بأن الولاياتالمتحدة هي أعظم صديق لنا، ورغم إدراكي بحجم اعتمادنا في جودنا الفعلي عليها". لعل الشاهد الأهم في هذين الحدثين أنهما يؤكدان شيئاً واحداً، وهو استحالة التوصل إلى سلام مع إسرائيل، على الأقل ليس في المدى القريب. فالقضية الفلسطينية تتعثر بشكل خطير بفعل الخصومات، والانقسامات بين الفلسطينيين أنفسهم، وبفعل حالة التفسخ التي وصلت إليها المؤسسات الفلسطينية، ووصل إليها الخطاب السياسي الفلسطيني. في مثل هذه الحالة لا يكون الطرف الفلسطيني في موقف يسمح له بالتفاوض وانتزاع اتفاقية تحفظ له الحد الأدنى من حقوقه التاريخية والقانونية. من الناحية الأخرى، تؤكد الحالة الفلسطينية لإسرائيل بأنها ليست في حاجة إلى مثل هذه الاتفاقية في الوقت الراهن. بدلا من ذلك، تصر على إضعاف السلطة، وتركها تتمرغ في خلافاتها الداخلية، ومع "حماس"، بما يسمح لها بالإدعاء، مرة أخرى، بأنه لا يوجد على الجانب الفلسطيني شريك حقيقي للسلام. هناك طرف آخر، لا يظهر في هذا المشهد، وهو الطرف العربي. بعيداً عن شعارات "الاعتدال" و"الممانعة"، أين يقف هذا الطرف مما يحدث؟