مشاري الذايدي * الشرق الأوسط اللندنية لم يكن قائد الحرس الثوري الإيراني السابق، محسن رضائي، مجرد حانق وهو يقول قبل يومين إن نظام الجمهورية الإيرانية الإسلامية مهدد بالانهيار إذا ما استمر الانقسام القائم. الرجل تحدث عن ما هو أبعد من التراشق بين الإصلاحيين والصقر الخميني / الخامنئي، أحمدي نجاد، تحدث عن وصول مياه النقد إلى الأساسات «الملحية» للجمهورية الخمينية، وهذا هو الحديث الأكبر والحدث الأعظم، وكل ما عداه فإنما هو مقدمات له أو طيور فضولية تحوم حوله. ربما يرى البعض في هذا الكلام نوعا من المبالغة والتشفي والتخويف من قبل الرجل الخاسر في الانتخابات الرئاسية، لكن بغض النظر عن هذا الافتراض، فإنه غير مؤثر في حقيقة أن ثمة ستارا قد انتهك وحرمة قد أبيحت وسورا قد تسور من داخله، لم يعد الحديث عن مفهوم ولاية الفقيه ولا عن شرعيتها وعن جدوى وصلاحية النظرية الخمينية في الحكم، لم تعد كل هذه الأشياء من قبيل المحرمات ولم يعد طارح هذه الأسئلة شيطانا، أكبر كان أم أصغر. وتلك هي المسألة الكبرى والعبرة القصوى من مجمل المخاض الإيراني الأخير الذي كان، وما زال، هو الشغل الشاغل للجميع. أساسا لم يكن أحد يتوقع أن يسقط نظام الشاه وعرش الطاووس عام 1979 على يد خليط من الثوار يقودهم رجل دين عادي التأهيل، ليحول تاريخ المنطقة وحالها ويدخلها في حقبة مديدة من «سباق التسلح الطائفي» على غرار النووي! ولكن ما لم يتوقعه أحد حصل، وسقط بوليس الخليج وشاه إيران، مع أنه، أي الشاه، كما يذكر من كتب عن تلك الفترة، كان حريصا كل الحرص على إصلاح وتقوية دولته، وتدارك الأخطاء، وكان دائما يسأل عن المخرج، قبل أن تتبلور الثورة وتنضج ويصبح إيقافها ضربا من المستحيل، فهل يجري على الملا الإلهي ما جرى على الشاه الطاووسي؟! ويصبح حال المرشد المعمم كحال الشاه المتوج، حائرا أمام ثورة وتمرد لا يدري ما يفعل تجاهه، ولا كيف يحله، ولا يهتدي إلى طريق الخروج من حالة القلق. هل أصبحنا أمام حالة «ثورة» لا يمكن إيقافها في إيران؟ هل فات الفوت على المرشد بكل قوات حرسه الثوري وميليشياته المتحمسة؟ لا ندري حقيقة ولا نقدر على الجزم، ولكن من المؤكد أن ثمة شرخا قابلا للاتساع على كرسي الحكم الخميني في إيران. هل تستطيع الدول أن تعرف متى تتغير وتصلح من شأنها؟ هل من المعقول أن يختفي صوت الاعتراض ومطالب الناس واحتجاج الشعب، أو قطاع منه، عن أسماع السلطة، وفي لحظة مفاجئة تقول السلطة إنها لم تكن تعرف بهذه التحولات التي تجري تحت أقدامها التي كانت تظنها أقداما تقف على أرض صلبة متينة؟! هل الدول والمجتمعات أحجار صماء لا يمكن أن تتحول، وهل تحتاج الأفكار الكبرى التي أقيمت على أساسها الدول إلى مراجعات وتهذيبات وتشذيبات مثل الشجر حتى تحتفظ بقوتها واستمرارها؟ أو كما جاء في مثل غربي: حتى تستمر الأمور كما نريدها يجب أن نحدث فيها تغييرا! الدول، كل الدول، التي صمدت واستمرت وكذلك المجتمعات، هي التي تملك مرونة التغيير وتتجرأ على فضيلة الإصلاح والتطوير، فالحياة بطبيعتها تحول، والموت هو الثبات، والمرض هو التردد والتلكؤ! الخلايا تجدد نفسها كل لحظة وكل ساعة حتى يستمر الجسد فاعلا ونشطا، والمياه لا تكف عن الجريان حتى تتجدد وتنقل الحياة معها. الثبات ليس محمودا دوما، على العكس، بعض أنواع الثبات إلى الجريمة أقرب، مثل أن تقف في طريق القطارات السريعة! المشكلة الكبرى هي في المكابرة والعمى عن رؤية دواعي التغيير والتحول، فتكون النتيجة ثباتا كثبات الأشجار اليابسة التي تنكسر مع هبوب الريح العاصفة، وليس ثباتا مرنا يتحول مع هبوب الريح ويجاريها دون أن يفقد «جذوره» كما في الأشجار الرطبة المرنة. تتمايل ويتغير لونها ويسقط ورقها وتتجدد أغصانها، ولكن جذورها ثابتة في التراب. ما نراه، ورأيناه، في عالمنا العربي خلال العقدين الأخيرين دراما محزنة ومدهشة، سقط صدام حسين، المهيب الركن، بطل القادسية، لأنه أخطأ في قراءة الواقع، وصور لنفسه واقعا يحبه هو، ورفض أن يستمع إلى أي رواية مغايرة لروايته ورؤيته للواقع، وكذلك الملا عمر زعيم طالبان أفغانستان، وظل بعد هزيمته، مجرد «مشاغب» يحمل بندقية الشريعة في هذا البلد البائس، رغم أنه كان من قبل معترفا به من أكثر من دولة، نشهد حالة من انهيار الأوهام في عالمنا العربي والإسلامي، وعلى من يريد الاستمرار أن يتغير! أن يدع أوهامه القاتلة عن نفسه وعن واقعه، وأن يقرأ الأشياء كما هي لا كما يحلو له. دعونا نعرض ل«طرف» من الصورة الحالية للمخاضات التي تجري في عالمنا العربي، في اليمن هناك حراك جنوبي انفصالي يريد فض الوحدة، ومتمردون من الزيدية يرفضون هيمنة صنعاء ويريدون حكما على طريقة الإمامة أو على الأقل تركهم يحكمون مناطقهم بطريقة محلية تستلهم الحلم الإمامي، وهناك «القاعدة» التي تتربص مثل ذئب شم رائحة الدم، وهناك الفقر والسلاح المنتشر، وكان الرئيس صالح صادما وهو يتحدث مؤخرا عن أن الانفصاليين ليسوا في الجنوب فقط بل حتى في العاصمة صنعاء! وفي العراق حرب خفية وظاهرة بين من يريد نموذجا صداميا جديدا بعباءة شيعية، ومن يريد حكما بعثيا جديدا، وكأن شيئا لم يكن طيلة السنوات الأخيرة الماضية، ومن يريد حكما علمانيا عربيا، وبين هذا وذاك أكراد متوجسون، وقاعدة ترفض الجميع ومعهم فكرة الدولة الوطنية، ضع هذا كله على خلفية انسحاب أميركي مثير للجدل. وفي لبنان الكل يخاف من الكل، والكل يلاعب الكل بانتظار جديد في علاقة سورية بالغرب أو طبيعة موقفها من المحور الإيراني أو التفاوض مع إسرائيل، وفي السودان والصومال، الحال «تصعب» على من لا قلب له، نكتفي بهذا «الطرف» من الصورة، لنعرف كيف يخطئ الجميع في قراءة صورتهم أو أنهم ينظرون إلى أنفسهم في مرايا محدبة أو مقعرة، لا تعكس الصورة كما هي، بل إما أن تضخم الذات أو تصغر الخصم، وفي الحالتين الصورة مغلوطة. رؤية الصورة كما هي، مبهجة كانت للناظر أو محزنة، هي الطريق المختصر للراحة، فهي إن بدت سيئة فعلى الأقل نعرف موطن السوء ونسعى لعلاجه، وإن بدت مفرحة استزدنا من مساحة الفرح، مع أن الأصل في واقعنا العربي هو الحزن لا البهجة، ومع أن الحزم، بعد هذا كله، يقتضي دوما تغليب الاحتمال الأسوأ من غيره. لا ريب أن كل السلطات تسعى إلى الصورة المثالية، فلا أحد يبحث عن المشكلات، ولكن تكمن الإشكالية في كيفية الرؤية ثم في كيفية العلاج. التفاؤل حسن، ولكن يجب أن يكون مبنيا على معطيات حقيقية، وإدراك أن الإصلاح ضرورة وليس اختيارا، ولكن هذه الضرورة إذا تأخرت عن وقتها لم يعد لها من جدوى. تلك هي عبرة ما يجري أمامنا وما نراه في إيران، وفي عالمنا العربي والإسلامي.