كنت قد تخرجت للتو كلية الطب حينما اتصلت بي زوجتي وأنا في مضايا من مصايف دمشق تقول لي إن مالك بن نبي أصبح في دمشق. بقي مالك بن نبي المفكر الجزائري في سورية لمدة شهر، ولكن أول اعتقال له كان من قبل من يحبه قبل أعدائه! فقد استضافه أخ فاضل كان حريصا جدا أن يخفيه من الناس كي لا يعتقل، ولأن صاحبنا كان مسكونا بهاجس الاعتقال؛ فقد ظن أن هذا السجن سينال أي شخص. وهذه الهواجس هي سجون فعلية. ليست قضبانا من حديد، بل أوهام من داخل العقل، وأذكر تماما قصة حلقة اليزيدي من جبل سنجار، فهم يظنون أن من جاء من الخارج ورسم دائرة حولهم يحبسون فلا يملكون الخروج منها إلا بآخر يأتي من الخارج فيرسم بأصبعه على الأرض أنه كسر الحلقة. وهذه الأوهام ممتازة في التعبير عن المطبات والأفخاخ التي يمكن لأي عقل وثقافة أن تقع فيها. وكان علينا لتخليص مالك بن نبي أن نحرره أولا من هؤلاء المصابين بالفوبيا وبارانويا الاعتقالات. في ذلك الشهر ألقى بن نبي عديدا من المحاضرات ولازمته أنا لمدة شهر أسمع منه وأسأله دون ملل، وكان الرجل في مثل عمري أنا حاليا في الستينيات، فكان يجيبني دون انزعاج وملل، والرجل عنده عقل منظم، ويدور في حلقات محدودة من الفكر يكررها مثل الفنانين. ويبدو أن كل عظيم من مفكر وموسيقي وكاتب ونحات ومخترع يقوم في حياته بعدة إنجازات، فيكرر هذه الأفكار حتى يتوفاه الأجل ويأتي من بعده من يهدم أو يطور أو يضيف ويعدل ما فعل الأول. ومن خلال متابعتي لمالك بن نبي لاحظت أن عنده مجموعة من الأغاني كان يكررها في كل مجلس يزيد وينقص مثل المغني البارع لعدد من الأغاني. فالمطرب أو المغني يتقن عددا من الأغاني فإن طلبت منه أن يغني فهو يكرر ما أبدع وفي عدد محدود، ولذلك فحين أقرأ لكاتب أعرف بعد فترة مجموعة الأفكار التي يحوم حولها ويحلق، ولعل أهم خمسة أفكار طرحها مالك بن نبي كانت حول فكرة (علاقة الحق بالواجب)، (الدورة التاريخية)، (نهاية القوة)، (عالم الأفكار والأشخاص والأشياء)، (القابلية للاستعمار). وقد تناولت فيما سبق فكرتين من أفكاره حول علاقة الحق بالواجب، وأنها علاقة رياضية، فمن قام بواجبه نزل له حقه من السماء عطاء غير مجذوذ. وعن الدورة التاريخية رأى الرجل أن كل حضارة لها مخطط صعود وخط سواء ومرحلة نكس وانحدار مثل الجسم تماما. وكان يرى - رحمة الله - عليه أن الحضارة الإسلامية انطفأت، ولا نريد أن نفجع القارئ فنقول ماتت! وهي فعلا ماتت!! وبسرعة يجب أن نفرق بين الحضارة كإنتاج بشري وصناعة أممية، وبين دين الله الخالد المبدأ الذي لا ينتهي ولا يموت فتوكل على الحي القيوم. والإسلام حاليا يزحف وينتشر في الأرض بقوته الذاتية، ويكسب الأتباع على مدار الساعة، أما الحضارة البشرية فهذه صناعة وإبداع بشري لها عمر، وحين يحين الأجل تموت وكفى به حسيبا. ومالك بن نبي رأى في خماسيته الفكرية أن القوة هي قوة الأفكار وأن عصر القوة انتهى، وأن مؤسسة الحرب ماتت، وكان ذلك في صبيحة يوم 16 تموز (يوليو) 1945 حين تم تفجير أول قنبلة ذرية في صحراء ألاموجوردو. ومن حينها امتلك البشر سقف القوة التي ليس بعدها قوة، وكانت إيذانا عجيبا ومعنى مقلوبا أن القوة ألغت نفسها بنفسها. ولكن هذه الأطروحة لم يتنبه لها المسلمون شعوبا وحكومات، فمازالت "حماس" تقاتل "فتح" جارتها وكذلك بني صهيون بكل حماس. ومازال حزب الله يتلمظ لالتهام لبنان مثل فطيرة محشوة بالزبيب، أما إيران فهي تبني صنما نوويا لالتهام كامل الشرق الأوسط، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ورأى مالك بن نبي أن الأمم تمر كما يمر الطفل بثلاث مراحل من عالم الأشياء إلى الأشخاص ثم مع النضج إلى عالم الأفكار. فإذا رأيت أمة متعلقة بأشخاص فاعلم أنها تعبد الأصنام الحية والميتة، وهذه الفكرة يمكن دمجها مع الفكرة الخامسة عن الاستعداد والقابلية، أن الشيطان وأي قوة شيطانية ليس لها سلطان على أحد إلا من منحها ذلك من الغاوين وأن جهنم لموعدهم أجمعين. وحين رأيت الملايين تمشي في جنازة عبد الناصر وهي تلطم وتنتحب، وعشرة أشخاص في جنازة ترودو الكندي وديغول الفرنسي بخشوع وصمت.. عرفت أننا أمة صبيان..