كنت قد عرفت عبدالله العجيري منافحا عن المروءة وداعيا لآداب الحوار والخلق الإسلامي. كان ذلك في المرة الأولى التي قرأت له عندما كتب مقالته المعنونة ب"أشواق المروءة قبل أشواق الحرية" والتي كتبها تعليقا على نواف القديمي، خصوصا حين قال: “ولقد ظللت طيلة الأيام الماضية أتساءل أين ذهبت أخلاق الإسلام؟! وآداب البحث والمحاورة والمناظرة؟! بل أينَ ذهب الحياء و قواعد المروءة؟!”. لكني عندما قرأت مقالته الأخيرة "يحق لسلطان العامر أن يغضب"، أحببت أن أعرف ما إذا كان هذا فهمه لآداب الحوار والمناظرة؟ وألم يقع في كل ما عيب على نواف القديمي واتهم به عندما نقل حديثا من أماكن خاصة إلى العلن، ملفقا فيه ومنتقيا منه ما يشاء؟ أين بالضبط تقع آداب المحاورة والمناظرة؟ خصوصا أن العجيري لا يقوم في مقالته بأكثر من ايجاد العذر لسخرية الساخرين، ملطفا سخريتهم تحت تسمية "تندر". أتمنى فعلا أن أجد إجابة على هذه الاسئلة.. على كل، لن أفعل مثل العجيري وأسطر أكثر من نصف هذه المقالة عن شخصه، بل أريد فقط قبل أن أنتقل لمناقشة ما كتبه، أن أنبه على أمرين اثنين: الأول، أن العجيري اعتمد في مقالته على كلام بعضه منشور أمام الجميع كما هو حال مقالة عكاظ. وبعضه الآخر غير منشور كالحديث الذي جرى في المجموعة البريدية. ولهذا، لا أعلم حقيقة ما مدى أهمية "تأويلاته"، طالما أن القارئ لا يستطيع التحقق من الكلام "المؤول". ولأضرب مثالا أوضح فيه ما أريد، فأنا كنت قد أقتبست من مكي القيسي، وقمت بتحديد أي كتبه التي اقتبست منها. هنا، في هذه الحالة، يستطيع أي شخص أن يرجع لذلك الكتاب- المنتشر في المكتبات- ليتأكد ما إذا كنت محقا في فهمي له أم لا. هذا الوضع لا ينطبق على قارئ العجيري الغير مشترك في المجموعة البريدية... فهذا لا سبيل له لقبول كلام العجيري سوى الاعتماد على مدى "ثقته" به، لا على مقارنة فهمه هو للكلام الأصلي بفهم العجيري له. وهذه إشكالية كل كلام علني مبني على كلام ذكر في دوائر ضيقة خاصة، لا يتسع لأي كان مراجعتها. وحتى لو قلتُ أن العجيري لم يفهم تلك الجزئية، أو أساء تأويل هذه الفقرة، فسيصبح القراء ك"الأطرش في الزفة" كما يقال. فهم لن يستطيعوا التأكد من كلامي ولا كلام العجيري، لأنه ذكر في مجموعة خاصة. بالنهاية، لا أسهل من أن أسطر مقالة طويلة متهما فلانا من الناس بأنه قال منكرا عظيما في مجموعة بريدية، فيقوم هو بنفى ما ذكرت، فأعود أنا لأوكد كلامي... ففي حالة كهذه الحالة: إلى من سينحاز القراء في نهاية المطاف؟ قطعا لن ينحازون لمن كانت حجته أمضى أو دليله أسطع وأظهر، بل كل منهم سينحاز لمن يثق به ويصدقه. بل قد تكون المواقف محسومة مسبقا، لأن الثقة والتصديق تأتي من معرفة شخص الكاتب، لا من التدقيق فيما كتب. تتحول المسألة في نهاية الأمر عن كونها نقاش ومقارعة بالدليل والبرهان، إلى محاولة إظهار الآخر بمظهر المزيف الكذاب. أنا في هذه المقالة سأحاول الابتعاد عن هذا المآل الذي ينجرف له كل حديث مبني على أحاديث مجالس خاصة ودوائر مغلقة، وسأكتفي بإعادة توضيح مواقفي التي أرى أن العجيري أساء فهمها أو انتقى من أقوالي ما رآه مناسبا له وأهمل غيرها. وذلك كي تكون واضحة أمام العجيري والقراء من جديد، محاولا قدر الامكان الوفاء للكلام الأصلي المكتوب في المجموعة دون استثمار كونه كتب فيها بشكل خاص لأعيد صياغته بطريقة تجعله كلاما مختلفا تماما. الأمر الثاني الذي أود التنبيه إليه، هو بخصوص قول العجيري: "فتلك صورة ألفناها مؤخراً ممن تزلزلت قواعدهم، واهتزت يقينياتهم، وتخلخلت بُنى الثوابت في نفوسهم...”. سؤالي: هل كان أمرا ضروريا من العجيري إطلاق هذه الأحكام، وإدراج محاوره تحت هذا الصنف؟ هل لا يستقيم الحوار بالنسبة للعجيري إلا إذا كان بين "المسلم الأصيل" والآخر "المهتز المتخلخل المتزلزل"؟ ألا يتسع النقاش ليكون تباحثا حول رأي، مهما كان غريبا، مهما كان عجيبا بالنسبة لأحد الأطراف، لكنه طالما كان مبني على استدلالات فهو قابل للتباحث حوله والوصول لنتيجة؟ ألا يمكن حدوث أمر مثل هذا؟ لماذا يجب أن تكون دوما صورة المناقشات الدينية: نقاشا بين منافح عن الدين وآخر يصور على أنه يحاول الطعن فيه أو جاهل به أو لا يعرف شيئا أبدا عنه في نفس الوقت الذي يخوض فيه بتهور؟ إن هذا الإصرار على تصوير الحوار بهذا الشكل، إنما ينم عن افتراض مخيف يسكت عنه الطرف الذي يصور نفسه حارسا للدين وحامي حمى العقيدة. هذا الافتراض يقضي بأن آراء الفرد وعقائده الدينية هي التي تحدد مستوى علمه أو جهله بالدين. بتوضيح أكثر، لو قام شخص ببحث مسألة في صلاة الجماعة، فتعقب الأدلة، ودرس مناهج قراءتها، وتوصل في نهاية الأمر إلى أنها "سنة مؤكدة" وليست واجبة كما هو الرأي السائد عندنا. فطريقة العجيري التي يناقشني فيها، لن تهتم أبدا ب "كيفية توصله لهذا الرأي" أو "طريقة فهمه للأدلة التي أوردها"، بل طالما أنه قال رأيا مختلفا وغريبا، فهو إما جاهل أو مغرض، ولا وجود لاحتمال ثالث أبدا وهو أنه "اجتهد فاخطأ". وسيكون الموقف من استدلالاته، بأنه دوما جاهل بها، أو لم يفهمها، بل يتم الالماح إلى أنها وقعت بين يديه صدفة عندما تصفح كتابا ما. ألا يؤدي مثل هذا الافتراض، إلى اعتقاد مبدأ عام يقول: “كل بحث أو اجتهاد في الدين لا يؤدي إلى النتائج المقررة مسبقا فباحثها إما أنه جاهل أو مغرض أو أي شيءآخر عدا عن كونه "مجتهد"”... فهذا الافتراض يقود إلى الحكم على الأشخاص بما انتهوا اليه، لا بكيفية انتهاءهم له! وهنا أتسائل مرة أخرى هل هذه هي آداب الحوار والمناظرة؟ هل صار الأصل في كل مناقش لقضية من قضايا الدين أنه "مهتز ومتخلخل ومتزلزل" وأنه لا يفهم وغير ذكي ويستحق سخرية " العقلاء" منه؟ أعن هذا كان العجيري ينافح في مقالته عن نواف القديمي؟ هذا ما أردت التنبيه إليه، ولأنتقل الآن لمناقشة ما كتبه العجيري. فالموضوع الذي تم نقاشه يمكن تقسيمه إلى جزئين: الأول، هل يجوز النقص على القرآن؟ الثاني، هل يعتبر تجويز النقص في القرآن تجويزا لنقص الشريعة والدين؟ العجيري ناقش القضية الأولى، وامتنع عن مناقشة الثاني، تحت حجة غريبة مفادها أنه -فقط عند نهاية المقالة- تذكر فجأة أني "صاحب سوابق" وأن المشكلة معي "أعقد وأعمق”. على كل، امتناع العجيري عن نقاش هذه القضية، يدخل ضمن آليته الانتقائية... إذ أنه انتقى ما أراد من الأدلة التي أوردتها لكي يرد عليها، وامتنع عن إيراد الأدلة الأخرى، بل لم يشر لها حتى، بل إنه ينظر في أدلتي على المسألة الواحدة فيختار ما يظنه أضعفها ويهمل الآخر دون أن يبدي فيه رأيا. وهو لم يفعل ذلك إلا لاطمئنانه من أن قرائه لن يستطيعوا العودة للمجموعة البريدية الخاصة فاستباح لنفسه انتقاء ما يشاء. لهذا سأعود لهذه القضية في نهاية المقالة وأعيد الرأي الذي طرحته فيها في المجموعة، ليكون الجميع على بينة من الأمر. لنعد الآن إلى القضية الأولى: هل يجوز وقوع نقص في القرآن؟ لنقرر أولا أن هناك اتفاق على أن كل الآيات التي في القرآن الذي بين أيدينا اليوم هي آيات أنزلها الله على نبيه محمد. لكنها ليست "كل" الآيات التي أنزلت، فأثناء عملية الجمع أسقط الصحابة عن عمد -كما ذكر ذلك بندر الشويقي في رده على سليمان الضحيان- آيات ولم يدرجوها في القرآن. ولكن الخلاف هو هل يمكن أن تكون هناك آيات سقطت خطأ؟ فالخلاف هو عن إمكانية حدوث الأمر، ليس خلافا حول هل حدث أم لا. هناك من يقول أن هذا النقص غير المتعمد مستحيل الحدوث، لا في الماضي ولا في المستقبل... ولهم على قولهم هذا دليلين هما آية "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" والإجماع... وقد أورد هذه الأدلة عبد الرحيم السلمي في تعليقه عليّ في المجموعة البريدية. وأثناء مناقشتي لاستدلالاته لم يعلق العجيري أبدا على ما ذكرته حول آية الحفظ، بل إنه لم يشر إليها أبدا، وإنما اكتفى بالتعليق على حديثي عن الاجماع، وهذه الانتقائية ليست مبررة أبدا. عموما، كانت إجابتي على السلمي كالتالي: ذكرت له أن آية "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" ليست قطعية الدلالة، فهناك قول آخر يقول أن الهاء عائدة على النبي وليست على الذكر. ذكر ذلك الطبري في تفسيره أثناء حديثه عن هذه الآية، إذ قال: أن " الهاء في قوله (وإنا له لحافظون) من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم بمعنى وإنا لمحمد حافظون ممن أراده بسوء من أعدائه”. وكذلك ذكر القرطبي هذا القول حين قال: “وقيل " وإنا له لحافظون " أي لمحمد صلى الله عليه وسلم من أن يتقول علينا أو نتقول عليه أو " وإنا له لحافظون " من أن يكاد أو يقتل نظيره " والله يعصمك من الناس " “. وابن كثير أيضا أورد هذا القول في تفسيره رغم أنه لم يرجحه إذ قال: “ومنهم من أعاد الضمير في قوله تعالى " له لحافظون " على النبي صلى الله عليه وسلم كقوله " والله يعصمك من الناس "”. وذكر ابن الجوزي في زاد المسير: “وفي هاء له قولان . أحدهما أنها ترجع إلى الذكر قاله الأكثرون قال قتادة أنزله الله ثم حفظه فلا يستطيع إبليس أن يزيد فيه باطلا ولاينقص منه حقا . والثاني أنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالمعنى وإنا له لحافظون من الشياطين والأعداء لقولهم إنك لمجنون هذا قول ابن السائب ومقاتل .”وكذلك ذكر هذا القول كل من البيضاوي والرازي والبغوي وغيرهم. وهذا القول له وجاهته، خصوصا إذا كانت هناك شواهد كثيرة على أن ضمير الغائب في القرآن لا يعود على السابق له مباشرة. وقد ذكر السيوطي في كتاب "إعراب القرآن" أمثلة كثيرة، منها قول الله: “وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله“. فهل الهاء تعود على النبي (عبدنا)؟ أى فأتوا بسورة من شخص مثل النبي. أم أنها تعود على "ما أنزلنا"؟ قيل هذا وذاك. ومثله قول الله: “وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به.“ فهل الهاء في “به” عائدة إلى “ما معكم” أم إلى “بما أنزلت”؟ قيل هذا وقيل ذاك. وقد ذكر السيوطي من بين أمثلته آية "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" وذكر أن الهاء تحتمل أن تعود إلى الذكر أو إلى محمد المتهم بالجنون في الآيات السابقة على هذه الآية “يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون”، خصوصا أن هذه الآية رد على استهزاء المشركين بالرسول كما أكد ذلك صاحب “الكشاف”. هذا بخصوص الآية، فطالما أنها ليست قطعية الدلالة، فالاستدلال بها لا يسلم به. أما بخصوص الإجماع، فالسؤال: على ماذا يُستدل بالإجماع؟ ففي هذه المسألة لا يستدل بالإجماع إلا على أن الصحابة أجمعوا على أن كل الآيات التي جمعت في المصحف العثماني هي مما أنزل على الرسول. وهذه المسألة محل اتفاق اصلا. لكن عندما يقال لنا أن الصحابة أجمعوا بأنه لم يحدث خطأ أثناء الجمع، فهذا كلام لا معنى له. لأن الخطأ من اسمه لا يكون خطأ إلا إذا لم يكتشف. وعندما يقال لنا أن هناك إجماعا على أنه "لن" ينقص من القرآن شيء، فهذا حكم على المستقبل، والإجماع لا يكون على شيء مستقبلي، لأنه رجم بالغيب. وهذا هو سبب قولي أن الإجماع يكون على ما قد كان لا على ما لم يكن، لكن العجيري لم يفهمها في سياقها الزمني بأني أعني الماضي والمستقبل، بل فهمها بمعنى الموجود والمعدوم، ولهذا ضرب أمثلته التي لا أختلف معه فيها، ولكنها ليست هي المقصودة. أما الامثلة التي ذكرها عن ختم الرسالة والنبوة، فهذه عرفناها من القرآن ولم نعرفها من الاجماع. والاجماع حولها مبني على وجود نص في المسألة، فهل هناك نص على أنه لن ينقص القرآن في المستقبل؟ هذا بخصوص الأدلة التي تم إيرادها على استحالة حدوث النقص في القرآن وهذه هي الأجوبة التي قدمتها، والتي قام العجيري بتجاهل نصفها (عدم قطعية دلالة آية الحفظ) وإساءة فهم النصف الثاني (فهم الموقف من الاجماع بأن المعني به الموجود/المعدوم لا المستقبل/الماضي). فهل يتفضل العجيري الآن، بعد ايضاح المسألة واظهارها كما هي أمام الناس، بالتفضل بمناقشتها؟ لم أكتف بمناقشة الأدلة التي تمنع النقص، بل بالإضافة إلى عدم وجود أدلة تمنع حدوث النقص، فقد أوردت أنا أدلة تعضد القول بأن النقص أمر جائز الوقوع. والدليل الأول الذ أوردته هو قوله تعالى "ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك". فاكتمال القرآن معلق بمشيئة الله، فلو شاء إذهابه لأذهبه، لأنه قادر على كل شيء. أين موطن الخلاف بيني وبين العجيري في هذه المسألة؟ أنا أقول التالي: الله قادر على كل شيء. ولا يوجد في النقل والعقل ما يمنع أن يذهب الله بالقرآن. إذن فالنقص في القرآن جائز. ركز العجيري على المقدمة الأولى (كلية قدرة الله)، لكنه أهمل المقدمة الثانية (انتفاء المانع)، وراح يتندر ويسخر ويستعجب من كلامي. ولو تحرى الدقة، لعلم أن الأمر ليس كما فهمه. وليسمح لي العجيري أن أوضح ذلك له بمقال مقتبس من أحد الأمثلة التي أوردها هو: فالله قادر على أن يجعل أباجهل أول المؤمنين. فهل كونه قادر على ذلك يجعل من ذلك جائز الوقوع؟ الجواب: لا، لأنه ثبت تاريخيا أن أبا جهل عادى الدعوة، ومات مذبوحا في معركة بدر. فنحن هنا لدينا ما يمنع تجويز حدوث ذلك. وقل نفس الأمر بخصوص باقي القضايا، لكن في مسألة نقص القرآن: ما الذي يمنع جواز حدوثها؟ آية الحفظ؟ الإجماع؟ كل ذلك قد بينا أنه لا يمنع جواز وقوعها... فهل لدى الجعيري دليل نقلي أو عقلي أو أي نوع من الأدلة يمنع جواز نقص القرآن؟ بعد ذكري لهذا الدليل قلت في المقالة المنشورة في عكاظ "مما يعضد هذه الإمكانية، بل ويؤكد حدوثها حديث "يسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية" وقول ابن مسعود "إن هذا القرآن الذي بين أظهركم يوشك أن يرفع"”. فالمقصود من ذكر هذه الآثار، هو تعضيد هذا الجواز... فطالما أن الله قادر على الذهاب بالقرآن، وطالما أننا لم نجد ما يمنع جواز النقص، وطالما أن الذهاب بالقرآن أمر سيحدث في آخر الزمان،فهذا كله يؤكد جواز النقص. يفهم العجيري من هذه الآثار أنها "استثناء" سيحدث آخر الزمان، لكن فاته أنه لكي يتحقق له هذا الفهم عليه أن يثبت وجود القاعدة التي تجعل من الإذهاب استثناء، وهذا ما لم يفعله. ويفهم العجيري من هذه الآثار أنه طالما أن الذهاب سيكون في آخر الزمان، فهذا دليل على بقاء القرآن لذلك الزمان، وهذا لا يسلم له لأمرين: أن الحديث يتحدث عن "كتاب الله" وهذا لا يعني بالضرورة "كل ما أنزله الله على رسوله"، لأن قائل هذا الحديث هو الرسول، وهو عندما قاله لم يكتمل بعد إنزال القرآن عليه فجاز أن يسمى ب”كتاب الله” على الرغم من عدم اكتماله. هذا بالاضافة إلى وجود آيات كثيرة تتحدث عن "الكتاب"... قبل اكتمال القرآن، فمن أين للعجيري أن مسمى "كتاب الله" يدل على انه يضم كل ما انزل الله؟ وما الذي يمنع أن يكون الكتاب الذي سيسرى به هو ما "بقي مما أنزل" ؟ وهل يوجد ما يمنع أن يسمى هذا الذي "بقي" ب "كتاب الله"؟ يبقى مسألة واحدة في هذه القضية. فبعد أن قمت بإيضاح عدم دلالة الادلة التي تدل على فساد النقص، وبعد أن ذكرت بعض الادلة التي تعضد هذا الجواز، ذكرت دليلا تاريخيا آخر: وهو أن فعل الصحابة وجمعهم للقرآن وحرصهم عليه، خصوصا بعد موت القراء في حروب الردة، دليل على معرفتهم بأنهم إن لم يباشروا هم بجمعه، سيضيع ولن يتم حفظه. فهم العجيري من كلامي هذا، أني أتعجب من فعل السبب الذي يؤدي لتحقيق سنة الله، وأنه طالما أن الله قد ذكر سنة شيء ما فعلى المؤمن أن يقعد منتظرا تحقق هذه السنة من تلقاء ذاتها دون أن يفعل أو يقوم بشيء... ونتيجة لهذا الفهم المغلوط، قام بتعديد الآيات التي تذكر سننا إلهية وراح يطبق عليها ما انتهى إليه فهمه. وفي حقيقة الأمر أن الوضع مختلف هنا. فلو سلمنا جدلا أن معنى "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" دال على تكفل الله بحفظ القرآن، فإن هذا المعنى لا يماثل تلك الآيات التي أوردها العجيري التي تتحدث عن السنن الإلهية. فالمفسرون عادة عندما يذكرون هذا المعنى يؤكدون على أن حفظ الكتب ليس سنة إلهية، بل هو أمر خاص بالقرآن، إذ أن الكتب الأخرى أوكل الله حفظها لأصحابها عندما قال "بما استحفظوا"، في حين أن القرآن قد تكفل الله بحفظه. تماما كما قال إخوة يوسف لأبيهم يعقوب: “أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون“. فيوسف طفل، وليس مطالبا منه فعل أسباب تكفل له حفظ نفسه، بل إن مسؤولية حفظه قد تكفل بها إخوته. ومن هنا كان معنى الآية ليس بمعنى السنن التي لتحققها لا بد من فعل السبب، بقدر ما كان بمعنى التكفل الفعلي بالحفظ المخالف للاستحفاظ.. ومن هذه الزاوية، لو كانت الهاء في قوله "له" تعود إلى القرآن، وكان هذا فهم الصحابة له،لما تكفلوا بحفظ ما قد تكفل الله بحفظه. ولكن عدم تفريق العجيري بين هذه الآية وآيات السنن، جعله يجعل فعل الاسباب منطبقا على كل منها. وبعد هذا كله، لنفترض أن استدلالي بآثار إذهاب القرآن لا يسلم، وأن استشهادي بفعل الصحابة يمكن المنازعة به، فهذا لا يضر أصل المسألة: وهي أنه لا يوجد دليل يمنع جواز النقص على القرآن. إذ الأصل أن ذلك أمر معلق بمشيئة الله وقدرته. ننتقل الآن للمسألة الأخرى: هل يعتبر تجويز نقص القرآن تجويزا لنقص الدين؟ وهذه المسألة هي المسألة الأهم، لأنها تحدد ما إذا كان ينبني على المسألة السابقة أي أثر على الدين من عدمه. وإجابتي التي قدمتها عن هذه المسألة: أنه لا علاقة بين كمال القرآن وكمال الدين، فهاتين قضيتين منفصلتين عن بعضهما. وسأقدم على هذا الأمر دليلا واحدا. فالآية التي أعلنت اكتمال الدين هي قوله تعالى "اليوم أكملت لكم دينكم"، ليست آخر الآيات نزولا. بل آخر ما نزل هي آيات الدين والربا في سورة البقرة على قول، أو آية الكلالة على قول آخر. نعم، هناك من ذكر أن "اليوم أكملت لكم دينكم" هي آخر ما نزل، لكن من نقل عنه هذا القول، كالسدي مثلا، نجده يشير إلى أنها آخر ما نزل من ناحية التشريع، بحيث لم ينزل بعدها تحليل أو تحريم... فالمفسرين اختلفوا: هل نزل بعد "اليوم أكملت لكم دينكم" فرائض وأحكام أم لا؟ ولم يتبن أحد المختلفين القول بأنها آخر ما نزل على الإطلاق. ويعضد السياق هذا الأمر، ف" اليوم أكملت لكم دينكم" ليست آية مستقلة، بل هي جزء من آية "حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير".. فهذه الآية التي تتناول أحكام الأطعمة، تلتها آيات تتناول نفس الموضوع... مما يوحي بأنها متتابعة في النزول. وكل هذا يؤكد أن "اليوم أكملت لكم دينكم" ليست آخر الآيات نزولا، مما يعني أن الدين اكتمل قبل اكتمال نزول الآيات، مما يعني أنه لا علاقة مباشرة بين اكتمال الدين واكتمال القرآن. ولا يعني الفصل بين كمال الدين وكمال القرآن، القول بنقص القرآن، أو حتى جواز نقصه، بل كل الذي يعنيه: أنه مهما كانت نتيجة سؤال: هل يجوز النقص على القرآن؟ سواء كانت إيجابا أو سلبا، فهذه الاجابة لا تؤثر على كمال الدين