تحت رعاية ولي العهد.. السعودية تستضيف غداً مؤتمر الاستثمار العالمي لعام 2024م في الرياض    "السجل العقاري" يبدأ تسجيل 227,778 قطعة عقارية بمدينة الدمام والخبر والقطيف    «التعليم» تطلق برنامج «فرص» لتطوير إجراءات نقل المعلمين    "البرلمان العربي" يرحب بإصدار الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق رئيس وزراء كيان الاحتلال ووزير دفاعه السابق    جلسة تكشف الوجه الإنساني لعمليات فصل "التوائم الملتصقة"    أمر ملكي بتعيين 125 «مُلازم تحقيق» على سلك أعضاء النيابة العامة القضائي    " هيئة الإحصاء " ارتفاع الصادرات غير البترولية بنسبة 22.8% في سبتمبر من 2024    اقتصادي / الهيئة العامة للأمن الغذائي تسمح لشركات المطاحن المرخصة بتصدير الدقيق    الأرصاد: أمطار غزيرة على عدد من المناطق    15 مليار دولار لشراء Google Chrome    أقوى 10 أجهزة كمبيوتر فائقة في العالم    تنافس شبابي يبرز هوية جازان الثقافية    يلتهم خروفا في 30 دقيقة    مسودة "كوب29" النهائية تقترح 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة    «اليونيسف» تحذر: مستقبل الأطفال في خطر    "الداخلية" تختتم المعرض التوعوي لتعزيز السلامة المرورية بالمدينة    3 أهلاويين مهددون بالإيقاف    افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    وزير الثقافة: القيادة تدعم تنمية القدرات البشرية بالمجالات كافة    المدينة: ضيوف برنامج خادم الحرمين يزورون مجمع طباعة المصحف ومواقع تاريخية    لماذا رفعت «موديز» تصنيف السعودية المستقبلي إلى «مستقر» ؟    «مجمع إرادة»: ارتباط وثيق بين «السكري» والصحة النفسية    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    600 شركة بولندية وسلوفاكية ترغب بالاستثمار في المملكة    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    بحضور سمو وزير الثقافة.. «الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    تحفيزًا للإبداع في مختلف المسارات.. فتح التسجيل في الجائزة السنوية للمنتدى السعودي للإعلام    فعاليات متنوعة    111 رياضيًا يتنافسون في بادل بجازان    القِبلة    «واتساب» يتيح التفريغ النصي للرسائل الصوتية    أمراء ومسؤولون يواسون أسرة آل كامل وآل يماني في فقيدتهم    الأكريلاميد.. «بعبع» الأطعمة المقلية والمحمصة    تأثير اللاعب الأجنبي    الخليج يُذيق الهلال الخسارة الأولى في دوري روشن للمحترفين    «النيابة» تدشن غرفة استنطاق الأطفال    فرع وزارة الصحة بجازان يطلق حزمة من البرامج التوعوية بالمنطقة    «صواب» تشارك في البرنامج التوعوي بأضرار المخدرات بجازان    القبض على مقيم لاعتدائه بسلاح أبيض على آخر وسرقة مبلغ مالي بالرياض    "تقني‬ ‫جازان" يعلن مواعيد التسجيل في برامج الكليات والمعاهد للفصل الثاني 1446ه    خسارة إندونيسيا: من هنا يبدأ التحدي    مشكلات المنتخب    المدى السعودي بلا مدى    الأساس الفلسفي للنظم السياسية الحديثة.. !    1.7 مليون ريال متوسط أسعار الفلل بالمملكة والرياض تتجاوز المتوسط    معتمر فيتنامي: برنامج خادم الحرمين حقّق حلمي    سالم والشبان الزرق    الجمعان ل«عكاظ»: فوجئت بعرض النصر    الحريق والفتح يتصدران دوري البلياردو    إبر التنحيف وأثرها على الاقتصاد    «سلمان للإغاثة» ينظم زيارة للتوائم الملتصقة وذويهم لمعرض ترشح المملكة لاستضافة كأس العالم 2034    فيصل بن مشعل يستقبل وفداً شورياً.. ويفتتح مؤتمر القصيم الدولي للجراحة    وزير التعليم يزور جامعة الأمير محمد بن فهد ويشيد بمنجزاتها الأكاديمية والبحثية    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    "العوسق".. من أكثر أنواع الصقور شيوعًا في المملكة    سعود بن نايف يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القصيم تحكم المملكة
نشر في أنباؤكم يوم 26 - 04 - 2009

القصيميون حاربوا الأتراك مع لورانس العرب، وقاتلوا «تعصبا لأهل السنة» في العراق في القرن الثامن عشر
القصيم تحكم المملكة
كتب:حسن عبدالله - مجلة نيوزويك
حتى لورانس العرب أدهشته قدرة رجال هذه المنطقة على الترحال والقتال. القصيم تصدر الفكر بجميع أطيافه، ويقبض أبناؤها على غالبية مفاصل الدولة السعودية، ومؤسساتها الدينية والمالية والتجارية، وكان مراهقوها وشبابها يمثلون نحو ثلث المقاتلين والانتحاريين السعوديين في العراق. صدقني، لا تبتسم، فأنت في بريدة.
دائما ما تتذكر أسرته ما حدث بوضوح، لأنه كان مفاجئا. الكل كان يتوقع لمحمد (طلبت أسرته ذكر اسمه الأول فقط لحساسية الموضوع) النجاح والتقدم العلمي. كان ممتلئا بالحيوية والمرح. شعره الناعم الفاحم كان يصل حتى كتفه، متسقا مع الملابس العصرية التي يصر على ارتدائها. محمد درس الاقتصاد في أمريكا، وعاد إلى مدينة "بريدة"، عاصمة القصيم وأهم مدنها، مفعما بالأمل وبالفرص الواسعة التي تنتظره. لم يكن متدينا. بل كان شكله وأسلوب حياته المنفتح، يثير غضب الكثيرين من جيرانه وأبناء أسرته المتدينين.
انتظر محمد الفرصة التي كان يحلم بها طويلا، لكنها لم تأت. دق أبوابا كثيرة، وأجرى مقابلات توظيف عدة، باءت كلها بالفشل. لجأ إلى منزله وتحصن به، وجلس إلى الكومبيوتر المحمول الخاص به، وراح يبحث على الإنترنت.
بشكل مفاجئ، دبّت الخلافات العنيفة بين والدي محمد فتطلقا. تمزقت الأسرة، وذهب الأب والأم كل في طريق.
تقوقع محمد على ذاته، وعرفت أصابعه طريق المواقع الدينية التي تحث الشباب على الجهاد، وتدعوهم إلى الذهاب إلى العراق وأفغانستان لقتال الكفار هناك، والفوز بالحور العين في الجنة. تواصل محمد مع بعض الدعاة الذين تعرف إليهم عبر الإنترنت، والتقى بهم في أماكن بعيدة عن العيون، وفجأة اختفى تماما. بحثت أسرته عنه في كل مكان، واتصلت بالأجهزة الأمنية دون فائدة.
وصبيحة يوم حار خانق من شهر أغسطس 2007، دق جرس الهاتف في المنزل. ردت الأم. وفجأة سقطت مغشيا عليها. التقط أحد الأبناء السماعة، ليصله صوت يتحدث بلهجة عراقية، يزف إليه بشرى استشهاد محمد، في عملية قاد فيها سيارة مفخخة، وفجرها في أحد التجمعات العسكرية في ديالى. تأكدت الأسرة أن فقيدها الشاب تعرض لغسيل مخ شديد، أقنعه بالذهاب إلى بغداد، على أن يتم تهريبه عبر الحدود الشمالية.
مثل محمد، كان هناك الكثيرون. سرادقات العزاء التي انعقدت في أنحاء متفرقة من القصيم، تحولت إلى ظاهرة جديدة منذ بداية الاحتلال الأمريكي للعراق، وأعادت معها التذكير ب"الظاهرة الأفغانية"، التي مازالت آثارها موصولة بحوادث العنف المحلية.
الأسر كانت تنعي أبناءها في السرادقات، اسم بلا رسم، وذكرى من دون جسد يمكن النظر إليه نظرة وداع. الأبناء يذهبون ويعودون كما رحلوا، أسماء مجهولة.
السواد الأعظم من المقاتلين الأجانب في العراق حسب التقديرات الاستخباراتية والصحافية هم من السعودية. لكن انتماءاتهم الجغرافية داخل المملكة، تشير إلى تباين ذي دلالة مهمة. عام 2006 التقت جريدة "الوطن" السعودية أربعة من الشباب العائدين إلى منطقة القصيم، فكشفوا لها أن هناك "300 سعودي من أبناء القصيم وصلوا إلى العراق خلال الفترة الماضية". وتحدث أحدهم عن وجود نحو 1500 من الشباب السعوديين داخل السجون العراقية، بعضهم من القصيم، كانوا قد غادروا السعودية بهدف التسلل إلى بغداد.
عدد من الكويتيين العائدين من سجن غوانتانامو، كشفوا في حديث سابق مع نيوزويك العربية، أنهم خرجوا للجهاد في أفغانستان، بناء على فتاوى صدر معظمها من بريدة، وخصوصا فتاوى ابن القصيم سلمان العودة. هذا الداعية الذي تراجع عن فتاواه التي تكفر الأنظمة، وتدعو إلى طرد القوات الأجنبية من الجزيرة العربية، ومن العراق. فبعد أن اعتقلته السلطات السعودية وسجنته لست سنوات، قام العودة بمراجعة فكره، وتبنى نهجا قريبا من فكر الإخوان المسلمين، يدعو من خلاله إلى التربية الدينية، ويرفض العنف، ويعتبر الذهاب إلى العراق للجهاد "إلقاء للنفس في التهلكة".
سافرت إلى القصيم للتعرف على الملامح الخاصة لهذه المنطقة، ولماذا تمثل المصدر الأقوى للفكر السعودي في معظم المجالات. الطائرة الصغيرة التي حملتنا من ميناء جدة الدولي، هبطت في مطار بائس بعاصمة القصيم، مدينة بريدة. المطار صغير جدا، وله مدرج واحد للهبوط والإقلاع، وبلا خدمات تقريبا.
استقبلني مرافقي في الرحلة مراقب اللجنة الوطنية للمحامين بالمملكة صالح الدبيبي بترحاب شديد، وأصر على أن أبدأ زيارتي إلى المنطقة من الصخرة التي كان يواعد الشاعر العربي الشهير عنترة بن شداد، محبوبته الجميلة عبلة عندها، وقال: "لنبدأ بالعشق مع هذا الفارس الأسود الذي رفضت قبيلته بني عبس، زواجه من معشوقته بسبب لونه الأسود».
كتلة صخرية تنام وسط أخدود طويل، يمتد في قلب صحراء شاسعة، تخص محافظة الجواء القصيمية، ممهورة بتوقيعات طباشيرية لعشاق مجهولين. يبتسم صالح وهو يقول: "كان هذا منذ العصر الجاهلي قبل الإسلام. الآن لا عشق إلا بين الأزواج، وداخل البيوت المغلقة".
تمنحك رحابة الصحراء بالجواء شعورا رائعا بالحرية والانعتاق. الأرض منبسطة، موصولة بعدة أودية. سيول الأمطار تتجمع في القاع، ويحيط بها من الشمال والشرق جبل صخري، ومن الغرب كثبان رملية، ومن الجنوب أرض منبسطة.
تقع القصيم شمال وسط الجزيرة العربية، وهو موقع استراتيجي مهم، إذ يربط معظم مناطق المملكة بعضها ببعض. فتحدها الرياض من الجنوب والجنوب الشرقي، والمنطقة الشرقية من الشرق، والحدود الشمالية من الشمال، وحائل من الشمال والشمال الغربي. أما المدينة المنورة فتتواصل معها من الغرب والجنوب الغربي.
مساحتها تبلغ نحو 80 ألف كيلومتر مربع، ويصل عدد سكانها إلى نحو المليون وربع المليون شخص، نصفهم يسكنون في مدينة بريدة، ويعملون بالتجارة والزراعة والرعي، وبعض الصناعات الأخرى التي تشتهر بها المنطقة مثل الدواء وتربية الدواجن.
تسعى المملكة إلى تنويع مصادر الدخل، إلى جانب البترول الذي يمثل المصدر الرئيسي للدخل، من خلال بناء مدن ذات أنشطة اقتصادية متعددة، مثل حائل والمنطقة الشرقية وغيرها. ووفرت الأجهزة المعنية بنية تحتية قوية تغطي معظم أنحاء المملكة.
ولكن يبدو أن القصيم لم تأخذ حظها الوافي من هذه الفورة الاقتصادية، التي طالت معظم مناطق المملكة. فرغم أن القصيم توصف بأنها «سلة غذاء المملكة»، فإن التنمية فيها مازالت متعثرة، وثمة معوقات يصفها فيصل عبدالكريم، أمين عام الغرفة التجارية قائلا: "نعاني البيروقراطية الزائدة، وتواطؤ وتباطؤ البعض في فهم عملية التنمية. كما يشكل صغر حجم المطار وعدم الاهتمام به عائقا أساسيا".
ويضيف: "الشركة الوطنية للطيران أوقفت معظم رحلاتها إلى هنا، وعدنا إلى استخدام السيارة. الشركات التي تسعى إلى الاستثمار عندنا تهرب بسبب مشكلة المطار، الذي لا يفي بشروطها في إنجاز الأعمال. ويعاني التجار ورجال الأعمال أيضا رفض الجهات المعنية السماح لهم باستقدام عمالة من الخارج".
وزارة الأشغال العامة والإسكان السعودية قامت قبل نحو ثلاثة أعوام بمسح ميداني شمل ثماني مدن، توصلت من خلاله إلى أن 51 بالمائة من الأسر السعودية لا يوجد لديها دخل ثابت، و40 بالمائة لا يزيد دخلها الشهري على ستة آلاف ريال نحو (1600 دولار) في حين يرتفع الدخل إلى حدود مفتوحة لدى 9 بالمائة من الأسر السعودية.
أما نسبة البطالة كما أوردتها وكالة الأنباء السعودية الرسمية، نقلا عن وزير العمل السعودي، فقد بلغت بين الذكور نحو 10 بالمائة وبين الإناث نحو 263 بالمائة، في حين تصل بعض الإحصاءات الأهلية بنسبة البطالة إلى ما يزيد على ال 30 بالمائة.
قبل عقدين من الزمان، كانت القصيم على رأس قائمة مناطق المملكة الطاردة لسكانها، حسب دراسة لأستاذة إدارة الأعمال وفاء بنت ناصر، نتيجة لانخفاض الدخل، وارتفاع معدلات البطالة، وتفاوت الفرص الوظيفية، وتباين المستوى التعليمي، ووجود خلل في توزيع الثروة.
أدى هذا إلى هجرة الكثير من أبناء القصيم إلى بقية مناطق المملكة، حيث عملوا في مجال خبرتهم التاريخي، وهو التجارة، وحققوا نجاحات مهمة جعلتهم يسيطرون على معظم مجالات التجارة في السعودية.
أخيرا، ومنذ نحو عامين فقط، وجهت الدعوة إلى كبار التجار المهاجرين بالعودة إلى مسقط رأسهم، وقامت الدولة من باب التحفيز بربط القصيم بطرق مع بقية مناطق المملكة.
بالفعل، عاد بعض التجار، وأنشأوا مشروعات مهمة، منها مشروع الراجحي للنخيل والتمور، الذي يضم أكبر مزرعة تمور في العالم، سجلت في موسوعة غينيس. وتم التوافق على إنشاء شركة ضخمة، على غرار المدن الاقتصادية في المملكة، تقود عملية التنمية والاستثمار في القصيم التي تنمو فيها خمسة ملايين نخلة.
إلا أن الوضع الاقتصادي السيئ، الذي يتشابه مع أوضاع مناطق أخرى في المملكة، أو مع الكثير من أبناء البلدان العربية والإسلامية، لا يفسر وحده السر وراء اندفاع شباب القصيم إلى الخروج للقتال في العراق، أو كون المنطقة المصدر الأساسي للفكر بأنواعه، المتشدد منها والمتطرف وحتى المعتدل والليبرالي.
ثمة تاريخ طويل في التواصل مع الخارج، والانخراط في صفوف المقاومة، ضد الأجانب أو المحتلين للدول العربية المجاورة، يعتز به أهل القصيم إلى حد الهوس، ويزرعونه في نفوس أبنائهم كميراث حضاري، ينبغي التمسك به والعض عليه بالنواجذ.
فهم، حسب مصادرهم الشعبية والتاريخية، شاركوا في الأحداث الكبرى في الوطن العربي، وكانوا أكثر من غيرهم من النجديين القصيم حاضرة منطقة نجد وعاصمتها وعيا بالسياسة والاقتصاد. فقد شاركوا بجمالهم في حفر قناة السويس بداية من عام 1859 وحتى افتتاحها عام 1869، وكانوا يحملون الماء من دمياط وبورسعيد إلى آلاف العمال الذين يقومون بالحفر. والكثير من هؤلاء استوطنوا مصر وصاروا مصريين. كما التحق عدد من أبناء القصيم، بالقوة التي انضوت تحت لواء القائد المصري أحمد عرابي، الذي وقف في وجه خديوي مصر عام 1881. وشاركوا أيضا بجيش قوامه 800 رجل، مع السوريين، في معركة ميسلون ضد الجيش الفرنسي عام 1920، وكانوا من الشجاعة بحيث أعطاهم الملك فيصل نحو سبعة آلاف جنيه، هي كل ما كان يملكه.
وذكر الرحالة الفرنسي أوليفر، الذي زار بغداد في القرن ال 18، أن علي باشا والي العراق، اتخذ حرسه الخاص من أهل القصيم، وكان الباشا مدينا لهم بمنصبه "فهم الفئة المسلحة التي ثبتت تحت لوائه تمسكا بالشريعة وتعصبا لأهل السنة".
وقد أشاد ضابط الاستخبارات الإنجليزية المستشرق توماس إدوارد لورانس (لورانس العرب) في كتابه "أعمدة الحكمة السبعة" بأهل نجد، تحت قيادة ناصر بن دغيثر، الذين شاركوا معه في قتال الجيش التركي، أثناء الحرب العالمية الأولى.
وثمة مآثر تاريخية أخرى تروى حول شطارتهم في التجارة، وسياحتهم فوق جمالهم إلى الهند والصين وأمريكا، حتى أن هذه المآثر أخذت شكلا أكاديميا، قوامه شعور متنامي بالذات.
مساء يوم وصولي إلى "بريدة"، توجهت إلى منزل بدر الويهيبي، الذي يعد رسالة دكتوراه عن "العقيلات". ترابط أمام المنزل مجموعة من الجمال الشابة تأكل بنهم استعدادا لمحاكاة رحلة من الرحلات التي كان يقوم بها أهل القصيم في الماضي. يجلس في ديوانية واسعة على الأرض، محاطا بحيوانات وطيور محنطة، ومجموعة من الأدوات التي كانت تستخدم في الرحلات السابقة. يقول الويهيبي: "أهل القصيم يسمون «العقيلات»، لأنهم تميزوا بلبس العقال عن بقية أهل نجد.وكانوا يتاجرون بالإبل والخيل والأغنام، ويسوقونها من القصيم إلى بلاد الهلال الخصيب ومصر والأردن وفلسطين وتركيا، لبيعها في الأسواق هناك. العقيلات أسسوا حضارة ومجدا على مدى نحو 350 سنة، ولم يتوقفوا عن التواصل مع محيطهم العربي والإسلامي، إلا أن هناك من يغرر بشباب القصيم، ويدفعه إلى تفجير نفسه في العراق، تحت مسمى الجهاد. المشكلة أن هؤلاء الشباب يختفون فجأة، ثم نسمع أنهم ذهبوا إلى بغداد".
ويحكى الويهيبي أن ابن عمته الذي لم يتجاوز ال 20 كان من بين هؤلاء الشباب "فقد اختفى من بيته العام الماضي، ثم جاءتنا الأخبار أنهم أعطوه صهريجا ممتلئا بالمتفجرات، وفجر نفسه في إحدى المناطق في العراق".
بدر الذي راح يقلل من أهمية الظاهرة، ويؤكد تراجعها، رفض اصطحابنا إلى أسرة الشاب الانتحاري، احتراما لأحزانهم ودموعهم، ثم أتحفنا بغناء "حداء الإبل" الذي كان أبناء العقيلات يطلقونه في فضاء الصحراءالتي عشقتهم وعشقوها.
الكل في القصيم تقريبا يرفضون الاعتراف باستشراء ظاهرة ذهاب الشباب القصيمي إلى العراق، وثمة من يشير إلى أنها ظاهرة فردية، تراجعت بنسبة تتجاوز ال 90 بالمائة عما كان منذ عامين. ورغم وقوع مواجهات كبرى بين الأمن السعودي وجماعات متطرفة من أبناء القصيم، راح ضحيتها العشرات من الطرفين، فإن الأهالي هنا يتحاشون الخوض في مثل هذه الموضوعات، ويرون أن الأمن السعودي يقوم بواجبه تماما تجاه ما يسمونها ب"الفئة الضالة" من هؤلاء الشباب، الذين كانوا يهاجمون "استراحات" الأهالي في بريدة، أو يعتدون على رجال الأمن والناس في الشوارع، في أم سدرة، وحي القادسية بعنيزة، وحي الجوازات بالرس، وبالقرب من مدينة الحجاج ببريدة.
تمثل منطقة نجد الحاضنة الأم للوهابية، ففيها نشأت، ومنها انطلق داعيتها محمد بن عبدالوهاب وتحالف مع آل سعود. وبعد قيام الدولة السعودية الموحدة عام 1932، حمل دعاة نجد الوهابية إلى بقية أنحاء المملكة، وإلى بلدان عربية أخرى مجاورة. ومن هنا يتبوأ رجال الدين المعتنقين للوهابية، القائمة على المذهب الحنبلي، المناصب العليا في المؤسسات الدينية الرسمية في المملكة. ولا يكاد يخلو منصب سياسي مهم في السعودية من مسؤول ينتمي إلى نجد أو القصيم، باعتبار أن الأسرة الحاكمة نفسها تنتمي إلى منطقة نجد. ويثير استئثار النجديين بالمناصب العليا حفيظة بعض أبناء المناطق الأخرى، مما حدا بأحد الصحافيين السعوديين، الذي رفض ذكر اسمه لحساسية الموضوع، إلى وصف الملك عبدالله بأنه "أول ملك سعودي حقيقي" إشارة إلى انفتاح العاهل السعودي على بقية مناطق المملكة، وسعيه إلى توزيع عادل للثروة فيما بينها.
مخزون المنطقة التاريخي من الانفتاح على العالم من حولها، واحتضانها للوهابية، جعل القصيم بيئة منتجة للفكر الديني بكل أطيافه، وكذلك الليبرالي والعلماني المعتدل، كرد فعل عكسي على جمود الوهابية وعدم تطورها.
لكن مبادئ الوهابية قد تحمل العداء لبعض الفرق أو المذاهب الإسلامية كالشيعة، إلا أنها لا تدعو إلى العنف أو إسالة الدماء بشكل عام. فمن أين استقى هؤلاء الشباب الذين كانوا يذهبون إلى العراق من أهل القصيم، ومن بقية أنحاء المملكة، جذور الفكر الذي حملهم على تفجير أنفسهم تحت مسمى الجهاد؟ ومن أين حصل محمد العميري ابن منطقة عسير، الذي درس في كلية الشريعة بجامعة القصيم، وشارك في تفجيرات 11 سبتمبر، على الفكر الذي اعتنقه؟
سليمان الضحيان أستاذ اللغة العربية في جامعة القصيم، والمتخصص في الفكر الإسلامي، يرى أن الفكر الوهابي يحمل بذور التطرف في مجمله، فمقولات مثل عدم العذر بالجهل، هي في الحقيقة دعوة للتشدد، مشيرا إلى أن المقدسي الأردني، شيخ أبي مصعب الزرقاوي الذي قتل في العراق، ألف كتبا في تكفير الحكومة السعودية، مستشهدا بأقوال أئمة الوهابية أنفسهم، بعد أن جردها من واقعها وملابساتها وضوابطها.
يشير الضحيان إلى أن في الشخصية القصيمية، حدة وجرأة تجعلها ذات صوت عال دون تطرف، منوها إلى أن معظم الذين تجرأوا بالخطاب الليبرالي، والطرح العقلاني الجديد عبر المملكة، هم من القصيم "وهو ما رسخ شعورا بالاستقلالية عند الشخصية القصيمية".
ويتفق رجل الأعمال القصيمي عبدالله الرواف مع الطرح السابق حيث يقول: "نتيجة لاستضافة المملكة لرموز الإخوان المسلمين الفارين من اضطهاد عبدالناصر في الستينات من القرن الماضي، وعناصر من حزب التحرير الأردني، وبعد احتلال العراق للكويت عام 1990، حضر الإسلام السياسي إلى الجزيرة العربية ومنها القصيم، حاملا معه قنابله الفكرية التي سيست السلفية. لا ننكر وجود العنف، لكن العملية خضعت للتهويل. أهل القصيم قد يكونون محرضين، لكنهم ليسوا مفجرين. أنا أستغرب من هؤلاء الصحافيين الأجانب، الذين يأتون إلينا ويبحلقون في وجوهنا، وكأننا من عالم آخر".
ويرفض الرواف ما يسمى بالطرح الديموقراطي الإصلاحي، منوها إلى أن صناديق الاقتراع في العالم العربي، لم تنتج إلا أناسا ليسوا على مستوى المسؤولية، مستشهدا بديموقراطية الكويت، التي حسب وصفه صارت حجر عثرة في وجه المشاركة الشعبية الحقيقية.
يشيد الرواف بالإصلاحات الأخيرة التي قام بها العاهل السعودي قائلا: "هي خطوات إصلاحية ممتازة. الحكومة عندنا هي التي تبادر بالإصلاح، وتسبق المجتمع. فكم من أنظمة إصلاحية قامت بها الحكومة، واعترضت عليها جموع الشعب".
في منتصف فبراير، أعفي إبراهيم الغيث رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من منصبه على خلفية شكاوى كثيرة من مواطنين تذمروا من أساليب عمل الهيئة، وذلك ضمن تعديلات وتغييرات إصلاحية أصدرها العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وطالت مؤسسات دينية وقضائية واقتصادية حساسة.
وشملت التغييرات كذلك تعيين نورة الفايز في منصب نائبة وزير التربية والتعليم لشؤون البنات، كأول سيدة سعودية تشغل هذا المنصب الوزاري. وتعيين إمام أسود، للمرة الأولى في تاريخ الحرم المكي، وهو الشيخ عادل الكلباني، الذي ينتمي إلى أقلية سوداء من ذوي الأصول الأفريقية تمثل نحو 4 بالمائة من السعوديين. وقد استقبل تعيين الكلباني بترحاب شديد، إلى حد أن البعض شبهه بالرئيس الأمريكي كأول أسود يصل إلى سدة الحكم في بلاده، ووصفوه ب "أوباما الحرم المكي".
السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما مدى قدرة الدولة السعودية على المضي قدما في عملية إصلاح شاملة؟ وهل التغييرات الأخيرة تصب في خانة الإصلاح ولو ببطء أم أنها قرارات فرضتها المرحلة؟
ثمة مشاكل كثيرة، منها: أوضاع النساء. فالمرأة السعودية حتى الآن محرومة تماما من حقوقها السياسية والاجتماعية، فهي لا تنتخب ولا تُنتخب وممنوعة من قيادة السيارة ومستبعدة من الدخول في المجالس البلدية التي يتم انتخاب نصف أعضائها وتعيين النصف الباقي. وحتى مجلس الشورى الذي يعين أعضاؤه جميعا من قبل العاهل السعودي، مازال حكرا على الرجال. والأمر كله، حسب كلام صالح بن حميد رئيس المجلس السابق، رهن بقرار من الملك عبدالله يعطي فيه الفرصة للنساء لدخول مجلس الشورى، ويتيح لهن التمرس على العمل العام المحرومات منه منذ نشأة المملكة.
وعلى الرغم من أن المجال مفتوح أمام المرأة السعودية في الجانب الاقتصادي، حيث نجحت الكثير من سيدات الأعمال في تكوين ثروات وإدارة مشاريع مهمة وضخمة، وكذلك تعيين امرأة في منصب وزاري في الوقت الذي يرفض فيه كل علماء الدين في المملكة أي «ولاية» للمرأة، فإن المشوار مازال طويلا جدا كي تحصل المرأة على حقوقها السياسية والاجتماعية والثقافية وحتى الرياضية. فمثلا نتيجة للتضييق الشديد على المرأة السعودية في المجال الرياضي، فإن 20 من بين كل مائة امرأة مصابات بمرض السكري، وينتشر مرض هشاشة العظام وكذلك السمنة بين السعوديات بشكل وبائي، حسب تأكيد الناشطة الحقوقية السعودية أمل خليفة وبناء على دراسات أجرتها وزارة الصحة السعودية.
أخيرا، سُمح بتشكيل فريق كرة قدم نسائي في جدة، يتكون أعضاؤه من 20 فتاة سعودية برئاسة كابتن الفريق ريم عبدالله، وقد أحيط الفريق بضوابط مشددة بحيث يغلق النادي تماما يوم التدريب أو اللعب، ويمنع الرجال وحتى الأطفال من الدخول، وتحيط بأرض الملعب أسوار عالية تمنع أي محاولة للتلصص. وعلى الرغم من هذا، فإن اللاعبات مهددات بهجوم مباغت من أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذين يترصدون مثل هذه الأنشطة بل ويقاومونها.
الناشط الشيعي السعودي توفيق السيف يعتبر التغييرات الأخيرة نصف خطوة فقط "لأن الشيعة تم استثناؤهم من الدخول إلى عضوية هيئة كبار العلماء، مع أنهم يمثلون 20 بالمائة من سكان المملكة". ويضيف السيف: "لقد تم تعيين ممثل للمذهب الحنفي في حين أن عدد الأحناف أقل من ألف عائلة في المملكة. ويمثل المنتمون إلى المذهب الشافعي غالبية سكان المملكة، ومع ذلك فإنهم ممثلون في هيئة كبار العلماء بعضو واحد. كان لابد من تعيين ممثل للشيعة لكسر هذا الحظر".
السيف يرى أن هذه التغييرات، أشبه بتغيير في المواقع، ولا يمكن اعتبارها حركة إصلاحية شاملة، لأن الإصلاح الحقيقي، حسب رؤيته، يحتاج إلى عمل قانوني ومؤسسي. ومع هذا، يقول السيف: "إن لهذه التغييرات قيمتها الرمزية الكبيرة. فتعيين امرأة يعني أن الخط الأحمر الذي يمنع تعيين النساء انكسر الآن، وقد يلعب هذا دور المعجل في التنمية السياسية، ويوسع الفرص أمام النساء والأقليات. أما الإصلاحات الجذرية، مثل حاكمية القانون والديموقراطية، فلها طريق آخر. ومع الأسف، ليس هناك عزم شديد الآن للسير فيه".
مساء ليلة قصيمية منعشة، دعيت إلى حضور حفل افتتاح أحد الفنادق الجديدة في محافظة البكيرية، التي تبعد نحو 30 كيلومترا عن بريدة. تقدم الحضور من الوجهاء والأعيان والتجار، أمير منطقة القصيم فيصل بن بندر بن عبدالعزيز، وهو رجل مثقف يتحدث الإنجليزية. ألقيت كلمات الترحيب. وقدم عشاء محلي دسم، وفوجئت بمرافقي يقول لي: "هل لك في كأس من الفودكا السعودية!" تناولت الكأس فإذا هو عصير تفاح لاذع، تسبح فيه قطع من الفاكهة. ابتسم الأمير وهو يصافحني، ولمح إلى أنه يعرف بقدومي منذ بداية الرحلة من مكة إلى جدة ثم القصيم، وقال لمن حوله: "أعطوه الفرصة كي يرى ما يريده". ثم التفت نحوي وهو يقول بإصرار: "أهلا بك في مقر الإمارة، لكن لا أحاديث صحافية. لا أسئلة ولا أجوبة".
تقدم الأمير بندر الحضور في الخروج من المكان. توقف في الساحة المواجهة للفندق، ثم راح يشارك أبناء المنطقة رقصة "العرضة" السعودية الفولكلورية بالسيوف. فوجئت بالأمير يقدم لي سيفا ويدعوني (بالإنجليزية) إلى الاستمتاع بالرقص.
وضمني إلى جواره واكتشفت أنني أرقص قفزا مثل طائر أبوقردان المصري. الساحة ممتلئة برجال من كل الأعمار. الشباب يمثلون الأغلبية، وعلى ما يبدو فإنهم يحرصون بشدة على حضور مثل هذه المناسبات العابرة.
يعيش شباب القصيم نوعا من انسداد الأفق. الخيارات أمامهم نادرة. لا أمكنة للترفيه أو ممارسة الأنشطة الثقافية أو الفنية. القصيم كله ليس فيه دار سينما واحدة، أو مسرح تقدم عليه المسرحيات أو العروض الفنية. ليست هناك حرية في تكوين جمعيات ثقافية أو فكرية أو أدبية، أو مؤسسات للمجتمع المدني. الشاب هنا إما أن يظل مع أمثاله في الشوارع، أو يحقق ذاته من خلال الانغماس في طلب العلم في المساجد، أو يذهب إلى الجهاد ليفجر نفسه. ليست هناك منافذ للشباب كي يعبروا عن أنفسهم.
أحد الشباب قال لي حزينا: "أقصى ما يمكن فعله في القصيم، هو الذهاب إلى الاستراحات، أو التخييم في البر، هل تتصور أن الأحوال ضاقت بي، وكدت أذهب إلى العراق لأفجر نفسي. اتصلت بأحد مهربي الشباب إلى بغداد، وجمعت أغراضي وركبت معه سيارة للهرب عبر الحدود الشمالية، لكن الله أنار قلبي، فعدت إلى أمي، وبكيت على صدرها".
عرجت على أحد المقاهي في طريق العودة من الحفل، المقهى يعج بالشباب الذين يدخنون الشيشة. ثمة ألفاظ ودعابات قاسية يتبادلونها وهم يصرخون. سحابات الفراغ الأسود فوق رؤوسهم، تمطر كآبة وخواء وشعورا باللامسؤولية. إنهم قنابل جاهزة للتفجير في أي لحظة.
يقول سفيان إبراهيم الريدي المتخصص في الإرشاد النفسي، والأستاذ بجامعة القصيم: "لا شك أن التكوين الأسري والنفسي يساهم في تحديد سلوك هؤلاء الشباب. هناك لجان اجتماعية ونفسية بتكليف من وزارة الداخلية السعودية، تقوم بدراسة أسباب خلل وانحراف مثل هؤلاء الشباب، وكيفية استيعاب طاقاتهم. الغالبية العظمى من الشباب المنخرطين في الإرهاب، سواء في الداخل أو الخارج، بدأوا ما هم فيه قبل سن ال 20، أي في فترة المراهقة. الكثير من الآباء ربما يتحملون جزءا من هذه المشكلة، حيث غفلوا عن متابعة سلوك أولادهم، وعن الأشخاص الذين يستقون منهم أفكارهم".
قدمت الحكومة السعودية نحو 991 شخصا ممن تسميهم ب"الفئة الضالة" إلى القضاء بتهمة التطرف وارتكاب جرائم إرهابية ، وهناك قائمة أخرى تضم نحو 85 شخصا مطلوبا تطاردهم قوات الأمن، وتسعى إلى توقيفهم.
أنشأت وزارة الداخلية في المملكة أيضا، مركزا لإعادة تأهيل العائدين من العراق وغوانتانامو، وتطبق برامج علمية عليهم، بالتعاون مع مؤسسات أكاديمية دولية، وتقول إنها تهدف إلى معالجة الخلل الفكري والاجتماعي والنفسي، الذي يعانونه. وكلها جهود جيدة، إلا أنها غير كافية، فهي تعالج العَرَض وتترك المرض، ألا وهو البحث عن كيفية استيعاب الشباب ومساعدتهم على الزواج ودمجهم بشكل صحي في أنشطة المجتمع.
بالنسبة إلى المرأة فإن الأمر أشد تفاقما في القصيم، فأنت لا ترى النساء إلا في المراكز التجارية، وهن غائبات تماما عن الأنشطة والوظائف العامة بدعوى رفض الاختلاط.
الغرفة التجارية بالقصيم أنشأت مكتبا خاصا بسيدات الأعمال، يسمح لأي امرأة بأن تشارك في النشاط الاقتصادي بالمشروع الذي تريده ويتيح لها الحصول على التراخيص والمطبوعات باسمها، وبشخصيتها الاعتبارية. وبسرعة تقدمت نحو 200 امرأة، وأطلقن مشروعات مهمة، مثل صناعة الملابس والفنون اليدوية، وخدمات الأفراح والديكورات، وحتى المقاولات.
تقول الجوهرة بنت محمد رئيسة مجلس إدارة جمعية الملك عبد العزيز النسائية بالقصيم: "نسعى إلى التمكين الاقتصادي للمرأة، كمدخل إلى حصولها على شخصيتها المستقلة. لا نهدف إلى مناطحة الرجل ولكن ننمو بالمرأة. ذهبنا إلى الأحياء الفقيرة، وأطلقنا صيحة إلى كل النساء: كيف تبدئين مشروعك من المنزل. أنشطتنا تستهدف المرأة القصيمية المطحونة، مثل المطلقات والمعلقات، والأرامل وزوجات السجناء والأيتام. مكّنا نحو 300 امرأة اقتصاديا. ودربنا المئات على الخياطة والتجميل والتمريض والحاسب الآلي".
ليلة مغادرتي القصيم ذهبت إلى أحد المراكز التجارية الحديثة الضخمة في بريدة. دلفت إلى محل عطور فخم. قدم لي البائع المصري زجاجات مختلفة من العطور العربية الرائعة، ورحت أشم. انطلق صوت المؤذن داعيا إلى صلاة المغرب، خطف البائع الزجاجات بعنف من يدي، ودعاني إلى الخروج بسرعة من المحل كي يغلقه. اندهشت من سلوكه، فقال لي معتذرا: "لا تبتسم. فأنت في القصيم. الهيئة (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) شرسة جدا هنا، ولا أدري، فقد يعيدونني إلى بلدي، فقط، لأنني تأخرت دقائق عدة عن الذهاب إلى المسجد".
لا بد أن تتخلص القصيم من همومها كي تبتسم. لا بد أن يعود الشاعر النبيل عنترة بن شداد كي يناجي حبيبته عبلة بحرية من جديد:
"يا دار عبلة بالجواء تكلمي
وعًمًي صباحا دار عبلة واسلمي"
حوار
ناشط سعودي يقيّم التغييرات الأخيرة للملك
بعد قيامه بالكثير من التغييرات على مر السنين الماضية، يسرّع الملك عبدالله وتيرة الإصلاح في المملكة. ففي فبراير أقال وزير العدل ورئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقام بتعيين رؤساء جدد لمجلس الشورى واللجنة الوطنية لحقوق الإنسان والمجلس الأعلى للقضاء.
كما أقر دخول ممثلين للمذاهب السنية الثلاث، إلى هيئة كبار العلماء بعد أن كانت مغلقة على المذهب الوهابي (الحنبلي).
وعيّن، وللمرة الأولى في تاريخ المملكة العربية السعودية، امرأة في منصب نائب وزير التربية. وسمح لداعية أسود وللمرة الأولى في تاريخ الإسلام بإمامة الحرم المكي، وهو ما شبهه البعض بدخول الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض.
هذه القرارات أثارت الكثير من ردود الفعل. الناشط السعودي عبدالمحسن العواجي وهو من القصيم أيضا الذي تم فصله من عمله في جامعة الرياض، وسجنه بسبب آرائه، تحدث عبر الهاتف مع حسن عبدالله من نيوزويك العربية، حول الإصلاحات والتغييرات الأخيرة التي قام بها العاهل السعودي. وهذه مقتطفات:
حسن عبدالله: ما مدى قوة الإصلاحيين في المملكة العربية السعودية؟
العواجي: المنادون بالإصلاح من جميع الفئات، ومن جميع مدارس المملكة الفكرية، ومنهم جزء من الأسرة الحاكمة. الصوت المنادي بالإصلاح الآن له وجود وتواجد قوي، وامتدادات كثيرة، وله قبول شعبي لا بأس به. السلطات العليا لها تحفظات معينة على هذا التيار. نحن نسعى إلى تهيئة الأجواء لتنشيط العملية الإصلاحية، وإقناع السلطات بأطروحاتنا بشكل آمن ومطمئن. صوت الإصلاح لا يحسب على توجه بعينه، وإنما هو تيار عام فرضه الواقع والتحديات. الكل يدلي بدلوه من دون محاذير. أنا أتحدث معك من داخل المملكة دون أدنى حرج أو إشكالية.
ما هي رؤيتكم للإصلاح؟
ندعو إلى فصل السلطات الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية. ونطالب بمجالس بلدية محلية، ومجلس وطني (برلمان) منتخب يمثل الشعب، ومن خلاله يستطيع الشعب أن يشارك قيادته في صناعة القرار. نؤكد على ضرورة الشفافية في أمور الدولة، وبخاصة ما يتعلق بالتوزيع العادل للثروة والمال العام، إيرادا ومصروفا. وكذلك استقلال القضاء بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. هذه الركائز الأساسية تمثل المفتاح الحقيقي للإصلاح الشامل.
ماذا عن حقوق المرأة السعودية في عملية الإصلاح؟
المرأة بالنسبة إلى الإصلاحيين نصف المجتمع. نريد للمرأة السعودية أن تنتخب وتُنتخب كالرجل، ويكون لها ممثلوها في كل الدوائر. هذا أمر مسلم به عند المدرسة الإصلاحية، بما في ذلك الكثيرين داخل الأسرة الحاكمة. لا نتجاوز حدودنا ولا نتطاول على مقام القيادة العليا، التي تعتبر في قمة الهرم السعودي.
الشيعة يمثلون 10 15 بالمائة من الشعب السعودي لكنهم لم يحصلوا على مناصب رفيعة كما كانوا يتوقعون فكيف ترى مطالبهم؟
أي مطلب لأي مواطن سعودي يأتي في إطار الوحدة الوطنية، وعدم الاعتماد أو الاستقواء بالخارج، هو مطلب مشروع. لابد من أن نتفق على مشروع إصلاحي واحد. إذا شتتنا جهودنا إلى مطالب سنية، وأخرى شيعية أو إسماعيلية أو صوفية، أو وهابية، فهذه ليست دولة، وإنما مخيم بادية في الصحراء. وليعلم من سيرفع راية طائفية، أن جميع العقلاء في المجتمع السعودي سيقفون في وجهه. بعض الفئات تبالغ في مطالبها وإن كانت مشروعة ونحن نريد إصلاحا شاملا متدرجا، يراعي تطلعات الجميع، دون أن يخل بشيء من تماسكنا الأمني والاجتماعي والثقافي.
هل تتواصلون مع أي جهات حقوقية أو مدنية في الخارج؟
قبل هجمات 11 سبتمبر، كنا نتوقع من الخارج، خاصة من أوروبا وأمريكا، أن يشاركوا في تحديث الدولة ديموقراطيا ودستوريا. ولكن ثبت لنا بعد 11 سبتمبر، أن التوجهات الأمريكية لا تخولها مطلقا أن تتحدث عن أدنى درجات حقوقنا. لن نرضى أن يساعدنا أصحاب أبو غريب وغوانتانامو على استعادة حقوقنا. لن نقبل من هؤلاء أي شيء، حتى لو بقينا على وضعنا الراهن قرونا من الزمن.
كيف ترون مستقبل الوهابية في المملكة؟
المملكة قامت على تحالف بين سلطة سياسية ممثلة في آل سعود، فمازالت فيهم، وهي محل احترام من قبل المجتمع، وسلطة دينية ممثلة في مدرسة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، الذي تحالف مع الإمام محمد بن سعود قبل ثلاثمائة سنة تقريبا. هذا التحالف له امتداده السياسي أكثر من امتداداته الفقهية والمذهبية. وهذا التحالف قائم، ولن ينفك بسهولة، ونحن لا نطالب بفك هذا الارتباط، وإنما ننادي ب "بروسترويكا". فكما نطالب بإصلاحات سياسية، نرجو أصحاب هذه المدرسة (الوهابية) بمراعاة تحديات المرحلة، وإتاحة الفرصة لمراجعة مواقفها. هذه المواقف التي إن كانت مقبولة في وقتها، فليس بالضرورة أن تكون صحيحة ومقبولة في أوقات متأخرة، كما هي الحال الآن.
كيف استقبلتم التغييرات والقرارات الأخيرة للملك عبدالله؟
لا أرى في هذه القرارات شيئا استثنائيا. فقد جرت العادة في المملكة أن كل ملك يستلم الحكم، يقوم بمثل هذه التغييرات في الوجوه. ولا توجد أي آلية لإقرار تلك القرارات أو الاعتراض عليها، كما هي الحال في أي بلد غير ديموقراطي. لا يوجد في السعودية برلمان يمنح الثقة للحكومة أو ينزعها، كما هي الحال في البلاد الديموقراطية. مجلس الشورى المعين، عبارة عن تجمع نخبة، ولكن ليس له أي صلاحيات. هناك خطوات لا بأس بها، لكنها خطوات قليلة جدا في طريق الألف ميل.
إلى أي مذهب تنتمي؟
أنتمي إلى الإسلام. أرفض التمذهب. الإصلاح ينبغي أن يكون بعيدا عن أي أطروحات مذهبية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.