"توقفنا في الحلقة السابقة عند بيان مطالبة الجابري باعتماد ترتيب نزول الآيات وليس ترتيب السور في القرآن الكريم، ونواصل “أما بالنسبة لترتيب الآيات داخل السور فإن الجابري ينضم إلى ما أجمعت عليه المصادر على أنه (توقيفي) بمعنى أنه من عمل النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه، وبالتالي لا مجال للاجتهاد فيه. وقوله لا مجال للاجتهاد فيه يمكننا من تعرف موقفه من السنة، وأنه يرى العمل بها لازمًا. هل القرآن من التراث إذا كان قد مر معنا قول الجابري (كانت استراتيجيتنا، وستبقى، تقديم قراءات لموروثنا الثقافي تفسح المجال لعملية التجديد من الداخل) فإنه قال كذلك: (كنت في هذه المؤلفات التي تنتمي إلى (نحن والتراث) والتي منها هذا الكتاب) أي كتاب مدخل إلى القرآن الكريم، فإن هذا الكلام يمكنه أن يشعرنا أن الجابري يقول بأن القرآن من التراث. ويبدو أن دعوانا هاته تغضب الجابري مما جعله يصيح قائلًا (لقد أكدنا مرارًا أننا لا نعتبر القرآن جزءًا من التراث، وهذا شيء نؤكده هنا من جديد). ولكن الجابري يعتبر كل ما له صلة بالقرآن من فهم بشري تراثًا، حيث يقول: (وفي نفس الوقت نؤكد أيضا مما سبق أن قلنا، في مناسبات سابقة من أننا نعتبر جميع أنواع الفهم التي شيدها علماء المسلمين لأنفسهم حول القرآن، سواء كظاهرة بالمعنى الذي حددنا هنا، أو كأخبار وأوامر ونواهٍ، هي كلها تراث، لأنها تنتمي إلى ما هو بشري. ومع ذلك فلابد من اعتبار المقام كما قلنا). وقوله (وأوامر ونواهٍ) فإن الأوامر والنواهي لا ترجع إلى البشر ولا علاقة لها به، بل هي تعود إلى الشريعة، والشريعة كل الأوامر والنواهي التي تضمنتها صادرة من الله سبحانه أو من الرسول البشري -صلى الله عليه وسلم- بأمر ووحي من الله. أما العلماء فهم شراح لها ومستنبطون لأدلتها ودرجة حكمها بين واجب ومندوب، وحرام ومكروه ومباح. فهذا مزلق وقع فيه الجابري لا محالة، ولا أدري أن كان بقصد منه أو دون قصد. وإذا كان الجابري قد اخرج القرآن من التراث الفكري والثقافي والأدبي والفني، فهل يا ترى قد ادخله ضمن التراث الديني الإسلامي؟ الواقع أنه لم يدخله البتة في أي تراث، إذ يفرق بين القرآن وبين التراث الديني، حيث يقول (.. سواء تعلق الأمر بالقرآن الكريم أو بنصوص من التراث، نصوص التراث الديني، من تفسير وتاريخ وقصص أنبياء.. الخ) فالتراث الديني في رأيه هو التفسير والتاريخ وقصص الأنبياء، والقرآن ليس منه. وبعدما أخرج الجابري القرآن الكريم من التراث بأنواعه المختلفة، فماذا يعتبره؟ وكيف يعرفه؟. إن الجابري لما اقبل على تعريف القرآن عرض إلى أشهر التعريفات، فقدم منها خمسة تعريفات وهي: 1- القرآن (هو الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم). 2- القرآن الكريم هو كتاب الله سبحانه وتعالى، نزل به جبريل عليه السلام على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو المكتوب في المصحف، المبدوء بسورة الفاتحة، المختتم بسورة الناس. 3- القرآن هو كلام الله تعالى ووحيه المنزل على خاتم أنبيائه محمد -صلى الله عليه وسلم-، المكتوب في المصحف، المنقول إلينا بالتواتر، المتعبد بتلاوته، المتحدث بإعجازه. 4- القرآن هو (كلام الله تعالى غير مخلوق، المنزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- باللغة العربية، المعجزة المؤيدة، المتحدى به العرب، المتعبد بتلاوته، المنقول إلينا بالتواتر). 5- (القرآن الكريم كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولا، وانزله على رسوله وحيا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر). وبعدما عرض الفوارق الموجودة بين تلك التعريفات من موضوعية وحيادية ومنهجية وتكفيرية، خلص إلى تقديم تعريف القرآن من خلال القرآن نفسه، يقول الجابري (اعتقد لا ضرورة في الاسترسال، بعد الذي ذكرنا، في الإتيان بمزيد من التعريفات كي يقتنع القارئ بأن الكتابة في موضوع التعريف بالقرآن شيء مبرز إن عملنا منا لا تمليه الحاجة إلى جلاء، خلفيات هذه التعريفات ومثيلاتها. إننا لا نهدف إلى مساءلة هذه التعريفات عن خلفياتها المعرفية والمذهبية والإيديولوجية، لا نريد الدخول معها في جدال يعطيها فرصة الدفاع الإيديولوجي عن نفسها. بل نريد أن نسل إزاءها مسلكا مغايرا تماما، نريد استعادة الأسئلة القديمة التي كانت وراء كونها وطرح اخرى جديدة تتجاوزها. اعني بذلك رح مسار الكون والتكوين للظاهرة القرآنية نفسها). ومن أجل تعريف للقرآن، تعريف يختاره الجابري، فإننا نلحظ ذلك في قوله: (ومن اجل هذا سنضع جميع التعريفات السابقة ومثيلاتها بين قوسين (لا ننفيها ولا نعارضها ولا نشتغل بها أي انشغال) واضعين مكانها تعريف القرآن نفسه بنفسه من خلال قوله تعالى (وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، وإنه لفي زبر الأولين). وقوله تعالى (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث). وقوله (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل، من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان). ومن خلال هذه الآيات الثلاث التي تقدم لنا تعريف للقرآن من القرآن قدم لنا الجابري تعريفه للقرآن وهو (القرآن وحي من رب العالمين، يوحي به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-). مسألة الزيادة والنقصان والتحريف في القرآن: وبعدما سبق، نصل إلى اخطر مسألة في كتاب الجابري والتي بسببها ثارت تلك الضجة الكبيرة واللغط الشديد عليه، واتهم الجابري بسببها بالقول بالزيادة والنقصان والتحريف في القرآن الكريم، فهل فعلا قال الجابري ذلك وعناه؟ هذا ما سنحاول استقصاءه وإلقاء الضوء عليه للوصول إلى الحقيقة، أو مقاربتها. في البداية يوجه الجابري انتباهنا إلى كونه ليس أول من خاض في موضوع الزيادة والنقصان في القرآن بل (الموضوع قديم كثر فيه القيل والقال. وهنا الآن جدل طويل عريض في مواقع بالانترنت حول هذا الموضوع على مستويين: - مستوى الجدال مع النصارى وبعض المستشرقين قدماء وجدد. بعض الكتاب المسلمين يرددون القول بوجود تحريف في التوارة والإنجيل، وهذا مصرح به في القرآن، بينما يرد عليهم قرناؤهم في الديانتين بأمور منها القول إن القرآن نفسه تعرض للتحريف. - مستوى آخر من الجدل ،صامت تارة وناطق أخرى، بين بعض الكتاب من أهل السنة وآخرين من الشيعة، كل طرف يتهم الطرف الآخر بكونه يجر معه تراثا يحرف القرآن في هذه المسألة أو تلك). ثم يتناول الجابري مسألة التحريف في القرآن ويذكر أنه أنواع منقسمة إلى نوعين: معنى الأنواع الأولى من التحريف يقول عنها الجابري إنها واقعة في القرآن ومعترف بها. أما المعنى الثاني من التحريف، فيقول الجابري عنه: إنه مرفوض بإجماع المسلمين. فالمعنى الأول من التحريف الواقع في القرآن (أنواع شرحها بعضهم بقوله: فقد يقع بالتأويل بمعنى (نقل معنى الشيء من أصله وتحويله إلى غيره) أو بالنقص أو الزيادة في الحروف أو الحركات، وذلك كاختلاف القراءات، كما يقع التحريف ب(الزيادة والنقصان في الآية والسورة مع التحفظ على القرآن والتسالم (عدم التنازع) على قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- إياها). وهذا مثال تسالم المسلمين في البسملة على أن النبي قرأها قبل كل سورة غير سورة التوبة مع اختلافهم هل هي من القرآن أم لا. وهذه الأنواع من التحريف واقعة في القرآن ومعترف بها بصورة أو أخرى من طرف علماء الإسلام تحت العناوين التالية: التأويل، الأحرف السبعة، القراءات، مسألة البسملة..). أما المعنى الثاني من التحريف فيقول عنه الجابري: (وهناك معنى آخر للتحريف وهو القول بأن (بعض المصحف الذي بين أيدينا ليس من الكلام المنزل) وهذا مرفوض بإجماع المسلمين). إذًا، الجابري هنا انضم إلى الإجماع ولم يخرقه، ونفى أن يكون القرآن فيه زيادة. ولكن الجابري لم يقصد توجيه بحثه إلى هذه المسألة السابقة، لهذا قرر الإعراض عنها لأنها لا تدخل في موضوعه، وإذا عرض عليها مستقبلا فإن ذلك لن يكون بالقصد الأول. لأن القضية التي يريدها ويقصها هي ما يتصل بمسألة (جمع القرآن) يعني ما يدخل في نطاق السؤال التالي: هل المصحف الإمام» – الذي جمع في زمن عثمان والذي بين أيدينا الآن – يضم القرآن كله: جميع ما أنزل من آيات وسور أم أنه سقطت أو (رفعت) منه أشياء حين جمعه؟. وبعد هذا السؤال، قدم لنا الجابري جوابًا سريعًا ومبدئيًا مفاده أن جميع علماء الإسلام من مفسرين ورواة حديث وغيرهم يعترفون أن ثمة آيات وربما سور قد «سقطت» ولم تدرج في نص المصحف بعضهم يستعمل لفظ «رفعت» بمعنى أن الله رفعها، استنادًا إلى قوله تعالى:(ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) وفيما يلي انواع النقص التي ذكرتها كل المصادر السنية والشيعية. ثم شرع الجابري في تسطير ما ذكرته المصادر السنية: فنقل ما جاء في تفسير القرطبي عند تفسيره لسورة الأحزاب، عند كلامه عن آية الرجم ونصها: “الشيخ والشيخ إذا زنيا فارجموها البتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم). وبعد إلى إشارة القرطبي، بأن هذا روي عن ابي بن كعب، أحد كتاب الوحي وجامعي القرآن، ينقل كلام القرطبي والذي قال فيه: وهذا يحمله أهل العلم على أن الله تعالى رفع من (سورة) الأحزاب إليه ما يزيد على ما في أيدينا (منها) وأن آية الرجم رفع لفظها» ثم يذكر القرطبي رواية عائشة زوج النبي جاء فيها أنها قالت: كانت سورة الأحزاب تعدل على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مائتي آية فلما كتب المصحف لم يقدر منها إلا على ما هي الآن.40 القرطبي في بداية تفسيره لسورة براءة (التوبة) وفي سياق عرضه للروايات التي تتناول عدم وجود البسملة في أولها: قال مالك فيما رواه ابن وهب وابن القاسم وابن عبدالحكم: إنه لما سقط أولها سقط»بسم الله الرحمن الرحيم» معه. وروي ذلك عن ابن عجلان أنه بلغه أن سورة «براءة» كانت تعدل البقرة أو قربها فنهب منها، فلذلك لم يكتب في بدايتها «بسم الله الرحمن الرحيم» وقال سعيد بن جبير: كانت مثل سورة البقرة. ثم نقل الجابري ما نقله السيوطي وغيره أن دعاء القنوت كان من جملة القرآن الذي أنزله الله على النبي -صلى الله عليه وسلم- وانه كان سورتين كل سورة ببسلمة وفواصل غير أن علماء السنة قد اعتبروها ضربًا من الدعاء لا قرآنًا منزلًا. وروى بطرق متعددة أن عمر بن الخطاب قال: إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فاجلدوهما البتة، نكالًا من الله، والله عزيز حليم»، فإنا قد قرأناها وقيل إن عمر أتى بهذه الآية إلى زيد بن ثابت حين كان يجمع القرآن فلم يأخذها منه لأنه – أعني عمر – كان وحده، وزيد كان قد اشترط شهادة رجلين فيما يأخذ من الآيات. وروى عن عائشة أنها قالت: نزلت اية الرجم ورضاع الكبير عشرًا، ولقد كانت في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتشاغلنا بموته دخل داجن فأكلها قال القرطبي: وأما ما يحكى من أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن فمن تأليف الملاحدة والروافض (42) ثم يذكر الجابري ما روي كذلك من سقوط آية من الجهاد وآية الصفوف الأولى ثم ينقل ما ذكره السيوطي في باب الناسخ والمنسوخ ما يلي: «قال:عبيدة حدثنا اسماعيل بن ابراهيم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: ليقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله وما يدريه ما كله! قد ذهب قرآن كثير ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر». ثم ذكر روايات أخرى عن أبي بن كعب وعن أبي عبيدة وعن أبي موسى الأشعري، وعن مسلمة بن مخلد الأنصاري تصرح بسقوط آيات وسور من القرآن. ثم ينقل الجابري ما جاء في الصحيحين عن أنس أنه:»نزل قرآن في الذين قتلوا في موقعة بئر معونة قرأناه حتى رفع وفيه: “أن بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا. ثم يختم النقل من مصادر أهل السنة بما روى الطبري في تفسيره عن الحسن أنه قال في قوله تعالى:»ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها» قال: إن نبيكم -صلى الله عليه وسلم- اقرئ قرآنًا ثم نسيه فلا يكن شيئًا، ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرؤونه وفي لفظ آخر، قال: كان مما ينزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- الوحي بالليل وينساه بالنهار فأنزل الله عز وجل: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت خير منها أو مثلها) ثم يعقب الجابري على ذلك كله فيقول: “هذا ويعلل بعض علماء الإسلام من أهل السنة ظاهرة سقوط آيات من القرآن بكونها داخلة في معنى النسخ غير أن علماء آخرين أنكروا أن يكون ذلك من النسخ وقالوا إن ما ذكر من الزيادة والنقصان في القرآن يرجع إلى خبر الاحاد والقرآن لا يثبت بها وإنما يثبت بالتواتر. ثم شرع الجابري رحمه الله في ذكره ما ذكرته المصادر الشيعية: فقرر في البدء أن يعرض عن ذكر غلاتهم، والاقتصار على ذكر ما ورد في المصادر الشيعية الرسمية وذكر ما نسب إلى الشيعة من تصريح بعضهم بوجود مصحف خاص بهم يسمى «مصحف فاطمة» وبين نفي بعض المصادر الشيعية أن يكون هذا المصحف مصحف قرآن ويقولون إنه تفسير لبعض الأحكام أملاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الإمام علي. ثم ذكر ما يؤكده المرجع الشيعي المعتبر السيد الحاج ميرزا حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي المتوفي 1320ه وهو من علماء النجف في كتابه»فصل الخطاب في اثبات تحريف كتاب رب الأرباب» من أن القرآن – كما هو في المصحف الذي بين أيدينا – قد زيد فيه ونقص منه ومن جملة حذف من القرآن سورة تحمل اسم»سورة الولاية» تقرر أن علي بن ابي طالب هو الولي بعد النبي وانه الخليفة من بعده.49 وإلى جانب هذا النوع من «التحريف» الذي يقوله به بعض علماء الشيعة والذي يرقى إلى حذف سور بكاملها هناك أنواع أخرى من «الحذف» يسجلها هؤلاء وتطال اسم علي، وقد ورد ذكرها في اصول الكافي للكليني ومنزلته عند الشيعة منزله البخاري عند أهل السنة من ذلك ما روي عن الإمام الباقر من أن اسم علي بن أبي طالب حذف من الآية رقم 23 من سورة البقرة كما حذف شطر من الآية 71 من سورة الأحزاب يذكر ولاية علي والائمة من بعده.0 ثم يشير الجابري إلى مرجعيات شيعية أخرى تنفي أن يكون المقصود من ذكر اسم «علي» في مثل هذه الروايات أنه جزء من نص القرآن، وترى أن المقصود بذلك هو أن المعنى ينص إلى علي وبالتالي فيما ذكر على أنه محذوف هو قرآن على مستوى التأويل وليس على مستوى التنزيل واستدل على ذلك بما قال الخوئي.