تقول النكتة الأخرى إن مواطناً صالحاً ارتج عليه في ليلة دخلته ونسي الدعاء الذي يقال في ظرفه الخاص. لكنه بعد برهة تفكير واسترجع واهتدى لأن أقرب ما يناسب حالته هو: "سبحان الذي سخَّر لنا هذا".. إلخ! الذين أطلقوا حملة "خلّيها تعنّس" لم يذهبوا بعيداً عن ذلك المواطن الصالح. صحيح أنهم أرادوا أن يوصلوا صوتهم وأن يلفتوا الانتباه لأزمتهم المريرة. إنهم قد يكونون بضعة أفراد لا يشكلون نسبة تذكر ضمن جيش العزّاب الكبير. وهذه الحملة ربما لم يسمع بها معظمنا أصلاً. لكن هذه الجملة بالذات "خلّيها تعنّس" والمشتقة عن شعار حملة مقاطعة وكالات السيارات الشهيرة.. لا تخدم قضية العاجزين عن الزواج بقدر ما تضعهم هم في خانة المتهم، وتذكرنا بالمعضلة الحقيقية خلف هذا الملف الشائك. فمعضلة الزواج الأولى ليست مادية بحال من الأحوال. بمعنى أننا لو افترضنا أن الزيجات صارت مجانية.. وأن المهور قد انخفضت بفعل معجزة ما إلى عشرة ريالات للبكر وخمسة للثيب. أن الناس قد قررت أن تتخلى عن بهارج الشبكة والمِلكة والغُمرة والصبحة، وعن استئجار قصور الأفراح واشتراط ماركات معينة للأثاث والخادمات قبل زفة العروس. لو حصل ذلك كله وصار (عقد) الزيجة سهلاً ميسراً.. فهل سينهي ذلك معاناة قوافل الشباب والشابات؟ هل سيضمن سعادة أرتال الرجال والنساء الحالمين ب (الاستقرار) ومشتقاته؟ "خلّيها تعنّس" عبارة تلقي بالكرة في ملعب ولي أمر العروس. إنها تمثل تهديداً مبطناً له بأن يخفض من متطلباته وإلا.. فإن الفتاة ستظل معلقة كالهمّ في رقبته. وهذه نظرة موغلة في عدم التقدير واللاآدمية كذلك. إنها نظرة تفترض أن المرأة هي مجرد سلعة في سوق خاضعة لشروط العرض والطلب. وهي تختصر مؤسسة الزوجية بأسرها.. المؤسسة المفروضة مقوماتها في القرآن الكريم والمخصص لها أبواب كاملة في الفقه والسنة.. تختصر هذه المؤسسة في عملية مقايضة بغيضة قائمة على مبدأ "هات وخذ". هات ابنتك وخذ مقابلاً. خفّض سعر البنت وإلا فإني سأتركها تبور عندك. لكن المرأة ليست جاموسة! ولا هي سيارة ولا سلعة ذات تاريخ صلاحية معين. المرأة هي نصفي الثاني. هكذا قرر الله تعالى. قارنوا هذه الحقيقة الكونية بشعار الحملة البغيض كي تدركوا مدى دناءته. الزواج هو مجرد سبيل شرعي لقضاء الوطر. هذا الفهم القاصر قد يبرر اختيار أصحاب الحملة لشعارهم المشؤوم. لكن هذا ليس عذراً. ومع الأسف فإن هذا الفهم ليس خاصاً بمؤسسي الحملة إياها، بل نكاد نجزم بأنه هو الشائع والمتفشي عبر شرائح المجتمع بأسرها. وهذا بالضبط هو تبرير فيضان مشاكل الزواج التي يغرق فيها مجتمعنا والتي لا يعرفها أحدنا حتى يقع في "مطب" الزواج. من ناحية إحصائية بحتة فإن الزواج في المملكة العربية السعودية هو مخاطرة محفوفة بالفشل. هذا الحكم المخيف مبني على أرقام بسيطة تنشر بين كل فترة وأخرى. أرقام بخصوص نسب الطلاق بالمدن الكبرى وقضايا الخلع واللعان المعروضة على المحاكم. الأرقام تصل بنسبة الطلاق في المنطقة الشرقية مثلاً إلى 60% من كل الزيجات. البعض يقول إن هذه أرقام مبالغ بها وإن النسبة الحقيقية هي 40% فقط. وهذه كلها أرقام مفزعة وكابوسية. 4 من كل 6 أعراس ستنتهي نهاية مأساوية! 4 من كل 6 عرائس سوف يحملن لقب "مطلقة" خلال بضع سنوات من زواجهن. هل يقبل أحدكم أن يكتتب في سهم نسبة خسارته 60%؟ أن يشترك في مشروع (بقالة) نسبة نجاحها لا تزيد عن 40%؟ لماذا نتزوج إذاً؟ غني عن القول أن البؤساء الذين انتهت زيجاتهم على النحو الوارد أعلاه لم يمروا أصلاً بأزمة جماعة "خلّيها تعنّس". إنهم قد تجاوزوا شكليات الزواج المادية لتواجههم التبعات الأثقل للعلاقة الزوجية والتي لا تعيها العقلية السطحية الباحثة عن الزواج كسبيل فطري لتحقيق الإحصان.. وحسب. ومع ذلك فإن مساعيهم لتكوين أسر سعيدة لم يكتب لها التوفيق. جوهر مشكلة الزواج هو في العلاقة بين الرجل والمرأة عندنا. العلاقة الشائهة منذ البدء والتي تقيم أحدهما بمثابة "اللغز" أمام الآخر فلا يستكشفه إلا بعد عقد الزواج. وهي علاقة شائهة أيضاً طالما يطالب الرجل بحقه من المرأة وإلا فإنه سيتركها لمصيرها الأسود.. في حين تهيئ هي أيضاً مصيراً أسود له ما لم يلب قائمة طلباتها الخيالية التي تعتقدها هي الأخرى في وهم الزوجية الخاص بها. نحن بحاجة إلى مواجهة مشكلة سوء الفهم بين المرأة والرجل في مجتمعنا، المشكلة التي تعصف بمؤسسة الأسرة بأكملها وهي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، نحتاج أن نواجه هذه الإشكالية على النحو الحاسم الفاعل ذاته الذي نتعامل به مع قضايا الإرهاب وقصور الرعاية الصحية والتعليم. وإذا كان جشع التجار قد أوحى لبعض منا بأن يلووا أذرع الفتيات وأولياء أمورهن لأجل تحصيل حقوقهم الفطرية المعطلة، فإننا بحاجة من باب أولى لأن نطلق حملات أكثر وعياً لتحقيق المعاني الأساسية المفقودة في علاقاتنا الزوجية اليوم. حملات من قبيل "خليه يسترجل" و"خليها تتوعى وتتعلم". نحتاج كشعب لهبة كاملة تفتح أعيننا مجدداً لقيم الشراكة والاحترام والتقدير والمودة والحب. نحتاج كأفراد.. وكما طالبنا وكلاء السيارات قبلاً.. أن نتخلى عن أنانية المصلحة الشخصية وأن نغلّب تلك العامة على غرائز الجشع وأوهام التملك والاحتكار. عندها سيتحصل كل منا على سيارة مناسبة.. وعلى حياة زوجية سعيدة.. مع بيان فرق ما بين الاثنين.