خطورة الفتوى العامة في هذا العصر انتشارها في الآفاق فتبلغ العامة والجهلة قبل العلماء وطلبة العلم، وأن أكثر الفتاوى اليوم تصبح فتاوى عامة ولو كانت بين مفتٍ وسائل ما دامت الواسطة بينهما وسيلة من وسائل التقنية الحديثة. وفتوى الشيخ عبدالرحمن البراك - أستاذ العقيدة - الأخيرة في شأن تكفير مستبيح الاختلاط المتضمن لمحرمات مجمع عليها لها خطورتها وإن لم يُردها الشيخ وتبرأ منها، وسيكون لها إسقاطاتها الخطيرة وتوظيفها فيما هو أبعد من دلالتها؛ ولاسيما في هذا الزمن الذي بُلي الناس فيه بتيارات متضادة متطرفة ما بين مستخف بالدماء ومستخف بالشريعة. صحيحٌ أن الشيخ في فتواه يعني اختلاطاً خاصاً متضمناً للنظر الحرام والسفور والخلوة... وليس كل اختلاط. وصحيحٌ أيضاً أن الشيخ لا يكفر الواقعين في هذا الاختلاط لمجرد المواقعة له. وصحيح معه أن من تحميل فتوى الشيخ ما لا تحتمل، وإلزام الشيخ بما لا يلزم ما قيل من أن فتواه تتضمن تكفير كل من يعمل أو يَدرُس في بيئة مختلطة، وما قيل من أن مقتضاها تكفير المخالطين للخادمات في البيوت اختلاطاً قريب الشبه باختلاط التعليم والعمل. وصحيح أيضاً أن الشيخ إنما يكفر مَن (استباح) هذا النوع من الاختلاط المتضمن لتلك المحرمات المجمع عليها، لا مَن وقع في هذا الاختلاط لمجرد وقوعه. وصحيح أيضاً أن الشيخ لم يُردْ استباحة الدماء المعصومة لأدنى شبهة، وهو أستاذ العقيدة المتخصص. وصحيح أيضاً أن علماء السنة والجماعة يفرقون بين التكفير بالوصف وتكفير المعين. فإذا قالوا: من فعل كذا فهو كافر لا يلزم منه أن يكفر أعيان الذين يفعلونه؛ إلا بتحقق شروطٍ أوصلها بعضهم إلى سبعة، من أشهرها قيام الحجة، وكونه مختاراً لا مكرهاً...إلخ، ولأجل هذا جعلوا تكفير المعين للقاضي، أو ولي الأمر. ولكنْ كل هذا لا ينفي عن الفتوى خطورتها، وستبقى غير مأمونة العواقب، وباباً مشرعاً منه يلج سفهاء الأحلام لاستباحة الدماء وحسم الخلاف مع المخالف بالمسارعة بتكفيره أولاً، ثم تأتي الطوام: الاعتداءات والاغتيالات! ومَن من العامة وغير المتخصصين في علوم الشريعة يدرك هذا الفرق بين استباحة المنكر وفعلِه؟ ربما كثير منهم لم يسمع بهذا من قبل. إن ثمة فرقاً بين التقعيد والتأصيل لهذا في بطون الكتب حيث تبعد فيها الاسقاطات على الواقع والتوظيف، وبين إطلاق ذلك في فتوى عامة تطير كل مطار. وأقل ما فيها أنها ستُتخذ سلاحاً يُشهره (بعض) طلبة العلم في وجه كل مخالف في صورة من صور الاختلاط؛ لتُختصر بها المسافات من محاولة الإقناع بالحجة إلى الإرهاب بالتكفير، ومن اتخذ الإرهاب الفكري سلاحاً بديلاً عن الإقناع بالحجة والبرهان فهو يفتح على نفسه باب التهمة بضعف الحجة. وإلا فمَن من المخالفين في شأن الاختلاط قال بجواز الاختلاط المتضمن لزاماً للمحرمات المجمع عليها؟ * أكاديمي في الشريعة. [email protected]