الفتوى التي أصدرها أخيراً الشيخ عبدالرحمن البراك تحت عنوان «تحذير من فتنة الدعوة إلى الاختلاط» تضمنت الدعوة إلى التشديد في حرمة الاختلاط الحاصل بين الرجال والنساء في ميادين العمل والتعليم؛ وذلك لأنه يتضمن النظر الحرام والتبرج الحرام والسفور الحرام والخلوة الحرام والكلام الحرام بين الرجال والنساء، وكل ذلك طريق إلى ما بعده. «وإن من استحل هذا الاختلاط فهو مستحل لهذه المحرمات، ومن استحلها فهو كافر، ومعنى ذلك أنه يصير مرتداً، فيُعرَّف وتقام الحجة عليه فإن رجع وإلا وجب قتله»، هذه الفتوى جاءت ضمن سياق الحملة التصعيدية التي شارك فيها عدد من العلماء وطلبة العلم والدعاة منذ اشهر عدة عبر إصدار عدد من البيانات والفتاوى والمحاضرات والخطب والمشاركات التلفزيونية وغيرها، وذلك كرد فعل على عدد من التطورات الأخيرة تجاه قضية الاختلاط الذي أصبح واقعاً ملموساً في عدد من الميادين التعليمية وغيرها، ولعل من أهم الأسباب والمبررات لتلك الحملات هذه المرة وجود مجموعة من الأصوات الشرعية المعتبر بقدرها وبمكانتها الشرعية والعلمية استطاعت تقديم رؤية شرعية لجواز الاختلاط من خلال الاستناد إلى مجموعة من الآراء والنصوص الشرعية وتفنيد أدلة القائلين بالتحريم بالحجة والمنطق الشرعي والعقلي، ولقد أصدر الشيخ البراك لوحده ضمن هذه الحملة ثلاثة بيانات في تحريم الاختلاط والرد على من أجازه، وليصل تصعيده في هذه المرة تجاه الموقف من الاختلاط إلى هذه النتيجة التي قرأها وسمع بها القاصي والداني، وعلى ما يبدو فإنهم قد اخرجوا كل ما في جعبتهم ورموا بورقتهم الأخيرة التي تدل على مدى اليأس، وذلك من خلال هذه الفتوى التي دعت إلى تكفير والحكم بردة كل من دعا وعمل بالاختلاط المذكور في الفتوى بحجة هي الاستحلال لما حرم الله، وهذا اللجوء من الشيخ لهذه الحجة يذكرني بالفتوى التي أصدرها من قبل الشيخ حمود العقلا في 10 - 5 - 1422 ه، الذي يستند على فتاواه دعاة التكفير والإرهاب بشأن حكم إطلاق الكفر على المتبرجات والسافرات التي قال فيها «بأن ما يفعله المتبرجات من التبرج ليس بكفر إلا إن ثبت أنهن يفعلنه استحلالاً له فهذا كفر». إن فتح باب الحكم بالتكفير والردة على الآخرين انطلاقاً من ضابط الاستحلال هو أمر لاشك في خطورة ما قد يترتب عليه من العواقب والآثار، لاسيما أن معظم اطروحات دعاة التكفير والإرهاب في تكفيرهم للحكومات والحكام واستباحة دمائهم تنطلق من قضية استحلالهم لما حرم الله، إن هذا الضابط وهو الاستحلال بإطلاق ومن غير تقييد هو ما يلجأ إليه بعض دعاة وأنصار التكفير وذلك من اجل إيجاد المسوغ الشرعي من وجهة نظرهم لتكفير من وقع في ذنب هو دون الكفر باتفاق المسلمين، وهذا الضابط وهو الاستحلال وإن كان مشهوراً في كتب العقائد إلا أن معظم العلماء وضعوا له قيداً محدداً لا يمكن الخروج عنه وهو «الاستحلال لأمر متواتر قد علم من الدين بالضرورة تحريمه، وعكسه وهو تحريم أمر متواتر قد علم من الدين بالضرورة جوازه»، والمقصود بها الأمور التي لا تحتاج إلى دليل لمعرفة وجوبها أو تحريمها وهي ما تكون محصورة في أصول وقواعد الإسلام الكبرى، كوجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان والحج وتحريم القتل والاعتداء على النفس والظلم والفواحش، وأما ماعدا ذلك من الأمور المختلف في حكمها الكلي أو في حكم بعض تفاصيلها وأجزائها التي قد يرى احد جوازها ويرى الآخر تحريمها فمن الجور والتعدي على شرع الله إعمال ذلك الضابط عليها الذي قد ينجم عنه حتماً لا محالة الكثير من العواقب التي لا تحمد عقباها. لذلك وضع وزير الشؤون الإسلامية الشيخ صالح آل الشيخ في شرحه للعقيدة الطحاوية (شريط رقم26) ضابطاً دقيقاً في هذه المسألة بقوله «إن الذي يَنْفَعُ فيه ضابط الاستحلال هي الذنوب المُجْمَعْ والمتفق على تحريمها، والمعلومة من الدين بالضرورة. أما إذا كان الذنب مختلفاً فيه إما في أصله أو في صورة من صوره فإنه لا يُكَفَّرُ من اعتقد حل هذا الأصل المختلف فيه سواء في أصله أو الصورة المختلف فيها». لقد انتشرت فتوى الشيخ البراك انتشار النار في الهشيم عبر عدد كبير من وسائل الإعلام ووكالات الأنباء العالمية، ما حدا بأحد طلبة العلم المعروفين بقربهم من الشيخ بالتطوع لإصدار تعليق وتوضيح للفتوى نُشر في عدد مواقع «الانترنت» الذي كان من أوله إلى آخره عبارة عن «صفصفة» مجموعة من الجمل والعبارات الإنشائية، ولم يتطرق في سياق ذلك ولو بكلمة علمية واحدة لدعم تلك الفتوى من الناحية الشرعية، إن كل من له دراية بالعلم الشرعي يدرك تماماً أن قضية الاختلاط وما يترتب عليها من مسائل وقضايا فقهية هي من المسائل التي تتعدد فيها الرؤية الشرعية ليس من الحاضر بل ومنذ القدم، فكيف لمن ينتسب للعلم الشرعي أن يجعلها من ضروريات الدين، بل وان يبني عليها علالي وقصوراً! إنني أقول وبكل أسف ليست هذه الفتوى فحسب هي الأولى من نوعها التي تنطلق من مبدأ التكفير والحكم بالردة والاستتابة والقتل تحت دعوى الاستحلال، ولكن هذه الفتوى قدر لها الانتشار والظهور والبروز وإلا فهناك أيضاً من الفتاوى الأخرى التي تنتهج النهج ذاته في التكفير وهو ما يحتم على كبار العلماء لدينا إيضاح الموقف الشرعي الصحيح من مثل هذا التأصيل الذي يسعى لنفي الرأي الآخر وإقصائه وإثبات ذاته من خلال مفهوم الردة والتكفير. [email protected]