القوة الناعمة وعلاقتها بالقيم، عنوان عميق المضمون، ومتباعد الأطراف، لا يُربط تفصيلا بمقال واحد إنما ما لا يُدرك كله لا يترك جُلّه. مصطلح القوة الناعمة عرفته البشرية في إرثها القديم وإن لم تطلق عليه هذا المسمى آنذاك. جوزيف ناي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفرد، يُنسب اليه إبراز مصطلح القوة الناعمة ، حينما ألّف كتاب له حمل هذا المسمى "القوة الناعمة" ، ثم طوّر الكتاب بإضافات وإشباعات وأصدره ثانيةً عام 2004م. القوة الناعمة ظهرت في معظم الأديان وكتابات الحكماء والفلاسفة ومنهم كونفيشيوس وفلاسفة اليونان كسقراط وأفلاطون وابن رشد والغزالي، وإشارات ابن خلدون في المقدمة وغيرهم. ومعظم تلك المرجعيات أرادت جوهر القوة الناعمة، وهي القدرة على مُحَاكاة ذات الإنسان والتأثير عليه، وإقناعه بمفاهيم وممارسات غالبا ما تأخذ تدرج قبول عند المتلقي، حتى يتشبع وينقاد إنجذابا وإتباعا. مفهوم القوة الناعمة يُذكر أنه بدأ يتأطر بأبعاد ممنهجة بعد الحرب العالمية الأولى، تبنتها دول كبيرة تجاه دول وشعوب أخرى تماشيا مع اتجاه بوصلتها ومُرادها، تَمثّل هذا خلال حقب الاستعمار في اختراقها للشعوب وتطبيعهم على مفاهيم وثقافة ذلك المستعمر ليستنزف الموارد منهم طواعية. المُستهدف في أساليب القوة الناعمة هي مضامين الثقافة والقيم والهوية والتراث الديني والتقاليد، وما يمثل الشعوب في ماضيها وما تفخر به في موروثها. وهذا يحصل من خلال ممارسة ميكيافيلية يدخل فيها القدرة المعنوية في التغلب السياسي والاقتصادي والإعلامي والأكاديمي والتقني، والتشريعات الدولية المنحازة في احتكارية المعرفة وابتكار الفجوات المتنوعة، وكلُّ هذا تستغله القوة الناعمة في التغلغل والتأثير المتدرج ليفعل مفعوله على حياة الشعوب، طامحة لفرص الهيمنة والترويض لجعل الدول تابعة لها. زخم القوة الناعمة قد تكون مثل حرب بلا دخان، يرضخ لها كثير من التابعين، أو أحيانا المتأثرون المنسجمون، وآخرون يتمنعون عليها ويقاومون وينكرون . فيُخلق تدافع طالما يعكس جهد غالب ومغلوب وكأنها صراع أيدلوجي. القيم القِيَمُ جمع قِيمَة وجذرُها قَوَمَ. والقرآن الكريم غزير الذكر والتكرار لمدلولات القيم ومفاهيمها، لتبلغ حوالي بضع مئات من المرات. وتأصيل الهدي القرآني يُنظّر للقيم في الحياة الإنسانية على أنها منظومة متكاملة قائمة، نواميسها وظواهرها كحال الكون قائم على نظام . وهكذا فإن جماع المعاني اللغوية في مفاهيم القيم، هي ما تتحدد به دوافع السلوك والأخلاق والعادات الاجتماعيّة والمُثُل التي يترضعها الإنسان في محيطه منذ نشأته، وهي معه طوال حياته لتصبح عفوية ويشعر معها بالرضا الذاتي واحترام المجتمع له. علماء النفس يُعرِفون القيم بمجموعة الانفعالات وردود الفعل الصادرة عن العقل، تجاه موقف معيّن ناتج عما يختزنه الفرد في عقله ووجدانه من تأثر بالمجتمع والعادات والدين والفطرة تجاه هذا الموقف، فيعيش الإنسان وفق قيم معينة يطبقها أو يسعى الوصول إليها، كما تُعتبر نوعاً من أنواع المحدّدات أو الغايات، ويعد الوصول إليها نوعاً من أنواع النّجاح. ولهذا ترتبط القيم بنفسيّة الإنسان ومشاعره، حيث تشمل الرّغبات والميول والعواطف التي تختلف من إنسان لآخر . القوة الناعمة والقيم القوة الناعمة احد اهم ميادينها القيم . إذ تُبذل الجهود في تفهم مدلولات القيم عند الشعوب ، وانتخاب ما هو في تقديرهم يُشكل عوائق او مصدات لتغلغل ثقافة وأنماط التفكير الذي تريده القوة الناعمه والذي به يتحقق فرض الهيمنة. هذه الهيمنة للقوة الناعمة في استهداف القيم عند الاخرين، تكون بقوة النموذج الذي تخلقه لها، وجاذبية الثقافة التي تبشر بها، وسمو المبادئ وامتلاك الخصائص التي تجعل الآخرين يتطلعون للدولة صاحبة القوة الناعمة باعتبارها مثالا يُحتذى ومصدراً مُلهما. مطامح القوة الناعمة في اختراقها للقيم. لا تكتفي بالقدرة على التأثير في الآخرين فقط، بل تكوين حالة عندهم حيث يصبح ما تريده هو نفسه ما يريدونه، وأن تكون القوة الناعمة لها تداخل مع العادات والممارسات التي تصبغ الحياة الاجتماعية. الآثار القريبة والبعيدة للقوة الناعمة في استهدافها للقيم هي إضعاف جودة السلوك والأمن المجتمعي، بما فيها ضمور الإحساس في تقدير الذات حتى يميل فهم المتأثر بالقوة الناعمة أن مجتمعه غير قوى ولا هو حرّ مستقل، أو حتى له قابلية التواصل مع الآخرين بقيم الشراكة الإنسانية، حتى موروثه الذي ينتمي إليه لا قدرة فيه على التنافس والندية. آثار وآفات القوة الناعمة تتعدد ومنها خطف سلمية التعايش بين مكونات المجتمع واحترامهم لبعضهم وتعاونهم واحتشادهم كلحمة واحدة؛ لذا تسعى القوة الناعمة في بذر تنافر وآثره في المجتمع حتى تعلوا المصالح الفردية والفئوية على مصلحة المجتمع والوطن. وأمر آخر القوة الناعمة يصل أثرها إلى تعميق استرخاء شخصية الفرد وسلوكه المجتمعي لتختلط فيها موازين الجد والهزل، والنحي إلى عشوائية لا تلتزم النظام والقانون، وهذه الحالة كذلك تطال عدم الاحتفاء بالعمل والإنجاز، وتضمر فيها قدرة التنافس في المجتمع. ولهذا حماية القيم هي مطلب وطني؛ لأن القيم بمثابة بنية تحتية يرتكز عليها الوطن وهويته، ماضيه وحاضره ومستقبله، والانتماء للوطن وولاته وشعبه، باعث على اليقظة في تحصين الوعي من مداخل ومدارج القوة الناعمة. ذكائية التعاطي مع أصحاب القوى الناعمة بأخذ ما ينفع وردّ ما لا ينفع بصوت الحكمة والحذق، دونما استعداء أو إقصاء. هو اُسلوب الفطين لمدافعة التأثيرات، بل أدهى رد بالمثل على ثعالبية أصحاب القوة الناعمة.