منذ تسعينيات القرن الماضي، بدأ مصطلح القوة الناعمة يأخذ حيزاً كبيراً في التداول والنقاش والتأطير، لكنه ومنذ بزوغ الألفية الثالثة قبل عقد ونصف، أصبح سلعة مهمة ووظيفة كبرى في نطاقات الاستخدام والتوظيف والاستثمار. ولكن، ما هي القوة الناعمة التي أصبحت السلعة الأكثر جذباً وفعالية وتأثيراً؟. القوة الناعمة أو اللينة، مصطلح سياسي صاغه في تسعينيات القرن الماضي جوزيف ناي عميد معهد كينيدي للدراسات بجامعة هارفارد الشهيرة، ووضع له هذا التعريف/التوصيف: القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلاً عن الإرغام، وعن طريق التأثير في سلوك الآخرين للحصول على النتائج والأهداف المتوخاة بدون الاضطرار إلى الاستعمال المفرط للعوامل والوسائل العسكرية والصلبة". وقد اقتبس ناي ثنائية الناعم والصلب من التقسيم المعروف لقطع أجهزة الحاسب الآلي والتي تتألف عادة من أدوات ناعمة software وأدوات صلبة hardware. ورغم أن الفلاسفة والعلماء والسياسيين القدماء اقتربوا كثيراً من مظاهر وتداعيات مصطلح/مفهوم القوة الناعمة إلا أنهم اختزلوه كثيراً في بعض القيم والتعابير والسلوكيات العامة كالتأثير والإقناع والثقافة والقدوة والنموذج. ويرى ميشيل فوكو الفيلسوف الفرنسي الشهير بأن القوة الناعمة تقوم بأدوار ووظائف وتأثيرات تعجز عن القيام بها القوة الصلبة المتمثلة عادة في الأسلحة الفتاكة والمعدات العسكرية المدمرة وكل أنواع التكنولوجيا المرتبطة بها، لأنها أي القوة الناعمة تتسلل بكل هدوء وثقة وتأثير دون أن تُسبب عداوة أو خصومة، إضافة إلى أنها لا تُظهر هوية الفاعل الحقيقي الذي يختفي عادة خلف التحريض النفسي والسجال العقلي والغزو الأيديولوجي، كل ذلك من أجل التأثير على الرأي العام، سواء الفردي أو الجمعي. وللقوة الناعمة، قدرة فائقة على تقديم الكثير من القيم البرّاقة والأفكار الملهمة والسلوكيات الجذابة، دون الدخول في صراعات وأزمات مع رغبات وتطلعات المجتمع، ومهما حدثت بعض التصادمات والخلافات بين طرفي المصلحة، وهو أمر طبيعي جداً، إلا أن القوة الناعمة كمنظومة ونهج وأسلوب قادرة على احتواء كل تلك المفارقات والتباينات بما تملكه من مرونة وليونة وتشكل. وترتكز مصادر وموارد القوة الناعمة عادة على ثلاثة مرتكزات أساسية، وهي الثقافة والقيمة والتأثير. وبشيء من التبسيط، فإن مصادر وموارد القوة الناعمة لأي أمة تتمظهر عادة في الفنون والآداب والثقافة والترجمة والسياحة والآثار والترفيه والاقتصاد والرياضة والسينما والموسيقى والفلكلور والأطباق الشهيرة والعلامات التجارية الرائدة والجوائز المرموقة والتقدم العلمي والفكري والروائي والتقني والجامعات العريقة ودور العبادة ومراكز البحث العلمي والكثير من المصادر والموارد الأخرى التي يُمكن تصنيفها كقوة ناعمة تُمثل ملامح التفوق والتطور والتنمية لتلك الأمة. الآن، وبعد هذا العرض المطول نسبياً لظاهرة/مصطلح القوة الناعمة، ماذا عن حقيقة وجودها واستخداماتها وتأثيراتها في وطننا العزيز الذي يزخر بكل تلك المصادر والموارد من القوة الناعمة، بل ويملك الكثير من القوى والثروات والطاقات والإمكانيات الأخرى، البشرية والمادية، التي لا مثيل لها؟. الإجابة على هذا السؤال المعقد، قد تجدها عزيزي القارئ في المقال القادم. [email protected]