لا يمرّ اليوم العالمي للشعر ، الموافق 21 / 3 من كل سنة على قلبي دون أن يترجّل .. هذا الفارس الجوال في الطرقات بلا غاية يدركها .. لا يمرّ هذا اليوم و أنا ناظرة إليه كبائع يعرض بضاعة مسافرة بالطلول و الآفاق .. يومٌ يعني لي بيارقاً من دماء العشاق على راياته .. دوحة داكنة بالخضرة .. لامعة بنجوم الأزهار .. و سجلاً مليئاً بالمدح و الزهد و الفخر و الغزل الشعر رقص الحروف ، يُرجع عداد كلماتي إلى الصفر .. لأصحو في اليوم الذي يليه و قد أمتلأت ذاكرتي بمخزون من كنوز الحروف لا حصر لها .. أبحث عما يهيم بخاطري لأتنفسه في قصيدة شاعر نظمها حين اتحاده مع اللحظة .. فأورقت أبياتاً ، صفقت له كل مشاعري امتناناً و عرفاناً .. و هاهو حشد الشعراء في ذاكرتي يحوم و يدور شروق بلا غروب .. بكلماتهم ، بإيقاعات تناغمها ، باتساق مخيلتهم ، ببديعهم الفيّاض . الشعر قضية قبل أن يكون أدباً ، وليس لنا الحق في مناقشة قضيته ، حين نعرضها على سفود المنطق ، لأن حاله ” إما حياةٌ تسرُّ الصديق و إما مماتٌ يُغيضُ العِدا ” الشاعر يقف على فوهة بركان مشاعره التي ليس لأحد حق إنزاله منها ، إن وقوفه هو الإنتحار الأجمل ، فلا رونق له بعده . ها أنا ألمحُ على عجالة أسماءهم و وجوههم و موسيقاهم .. محمد الثبيتي ، غازي القصيبي ، نزار قباني ، محمود درويش .. و شعراء كل العصور العربية التي أنشدت قبلهم أو بعدهم . و ها أنا أصغي لدفاعاتهم المستميتة عن حقّ التعبيّر مهما خالف ناموس الطبيعة ، نقض عادة اجتماعية، أربك قانوناً ، وقف بوجه نظام ، أو تمرد على أفكار سارية بين أقرانه و لو كانوا من محبيّه . ها أنا أبحث و أنقّب عن مُثلائي و نظرائي و أشباهي روحاً و تغريداً و سرمدا قد يوصمون بالنرجسية ، و ينعتون باللاواقعية ، و يقذفون بسراب مساكن أحلامهم .. لكن حتماً هم ملاذ ناسك الحرف ، و ملجأ معطوب القلب ، بيت الوطن ، مأوى كل مرتحل في سفن المشاعر ، و باحث عن الحكمة طوراً و المتعة أطوارا . قال عنه النبي صلى الله عليه و سلم : { إنَّ منَ البيانِ لسحرَا } . و نُسب إلى الخليفة عمر بن الخطاب : ( الشعرُ ديوانُ العربِ ) أي السجل و التأريخ . ( الشعرُ فضيلةُ العربِ ) كما وصفه الجاحظ . قال الروائي البريطاني و الكاتب المسرحي و الطبيب ” سومرست موم ” : ( الشعر هو تاج الأدب ، إنهُ الغاية و الهدف ، إنهُ أرقى أشكال النشاط العقلي ، إنهُ بلوغ الجمال و الدّقة .. وليس بوسع كاتب النثر إلا أن يتنحى حين يمر الشاعر ) . و في مقدمة ( الأعمال الشعرية الكاملة ) كتب سيد البيد ، الشاعر ” محمد الثبيتي ” عن الشعر : ( أحاول هزّ أفنانه اللدنة لتمطر لي الورد و الفراشات ، و تمنحني الإكسير المتوهج الذي يهب الحبّ و الحياة ، و أدعو أشعته الملونة لتخضّل في صدري ، و تورق بين أصابعي ، و تلدُ لي السحر و الرحيق و القصيدة العصماء ) . و أما الشاعر الدبلوماسي ” غازي القصيبي ” فيتساءل متعجباً ، في مقدمة كتابه ( في خيمة شاعر ) : ( هل للإعجاب بالشعر أسباب موضوعية ؟! هل للحبّ تبريرات منطقية ؟! لا أدري ! و كل ما أدريه أنه يستوقفني و يشدّني . و هذا يكفي ) مقتطفات من الشعر العذب .. ل ” محمد الثبيتي ” : 1- من قصيدة ( تَعَارُفٌ ) : غرفةٌ باردة غرفةٌ بابها … لا أظنُّ لها أيَّ باب و أرجاؤُهَا حاقدة .. كانَ يثوي بقربي حزيناً و يطوي على ألمٍ ساعدَه قلتُ : مَنْ ؟ قالَ : حاتمُ طَيٍّ ، و أنتَ ؟ فقلتُ : مَعنَ بن زائدة .! 2- من قصيدة ( مَوْقِفُ الرِّمَالِ ) : أنتَ و النخلُ طفلان طفلٌ قضَى شاهداً في الرجالِ و طفلٌ مضى شاهراً للجمال .. قالَ : يا أيُّها النخلُ يغتابُكَ الشجرُ الهزيلُ و يذمُّكَ الوتدُ الذليلُ و تظلُ تسمو في فضاءِ اللهِ ذا طَلعٍ خُرافيٍّ و ذا صبرٍ جميل .! 3- من قصيدة ( قَرِيْنٌ ) لِي و لكَ نجمتانِ و برجانِ في شُرفاتِ الفلك .. و لنا مطرٌ واحدٌ كلما بَلَّ ناصيتي بلَلَك .. سِرتُ خلفَ خُطاكَ أُجررُ خَطوَ المساكينِ لمْ أسألك .! و للروائي الشاعر ” غازي القصيبي ” .. 1- من قصيدة ( كَالحُلْمِ جِئْت ) كالحُلمِ جئت و كالحُلمِ غبت و أصبحتُ أنفضُ منك اليدا فما كانَ أغربُهُ مُلتقَى و ما كانَ أقصرُهُ موعدَا .. رأيتُك ، و الجَمعُ ما بيننا فلم أرَ غيرك عبرَ المدَى .. و يا لي من شاعرٍ عاشقٍ ينادي الهوى ، فيخوضُ الردى و يتلو عليك عيونَ القصيدِ و يرقبُ عينيك ، يرجو الصدى كطفلٍ يُداهنُ استاذهُ ليهمسَ ” أحسنت ” .. ” ما أجودا ” .! 2- من قصيدة ( لُوْرَا ) : و توارت تحتَ الحنايا فكانت نابضاً في مشاعري و كياني لا تسلني يا شاعري عن هواها يرفضُ السرُّ أن يبوحَ لساني .. عندما تصبحُ القيودُ حناناً و تمرُ السنونُ مثلُ الثواني عندها تصبحُ القيودُ انعتاقاً و انطلاقاً إلى عزيزِ الأماني .! عازي القصيبي محمد الثبيتي