يعيش مجتمعنا ككل المجتمعات حالة من النقاشات الفكرية المستمرة التي يعبر فيها عن استيائه من سلوكيات الاستهلاك المتزايدة بشكل لافت. مع إقرار تام بأن كل تلك المجادلات والوصايا التي تحاول تقنين الصرف وإهدار المال قد فشلت في الحد من تنامي مجتمع الاستهلاك. كما أنها لم تنجح في اكتساب أي تأييد شعبي في هذا الصدد. ويبدو أن مختلف شرائح المجتمع لا تأبه لما تنادي به النخبة سواء تلك التي تحاول الإتكاء على القيم الدينية، أو المنبثقة من تصورات اقتصادية، أو المنطلقة من منصات ثقافية. لأن النخبة ذاتها لا تمتلك أي رصيد واقعي لمطالبها، فرجل الدين الذي يحث الناس على الزهد صار يظهر على الناس بلباس فاخر ويركب أغلى السيارات. ورجل الاقتصاد الذي يحذر من إهدار الثروة يُشاهد وهو في أبهى صور الرفاهية، تماماً كما يبطل خطاب المثقف الذي يمجد قيم البساطة والتقشف وهو يعيش حالة من البذخ الصريح في مجمل حياته. وبالإضافة إلى عطالة خطابات النخبة المنادية بتخفيض سقف التطلعات للفرد والمجتمع، يشكل الاستهلاك في الحياة العصرية الحديثة عنواناً للرفاهية والمنفعة العامة. بمعنى أنه يحرك الدورة الاقتصادية ويسمح بظهور طبقات اجتماعية فاعلة. وهو الأمر الذي يجعل من كل تلك النداءات والدراسات والوصايا مجرد طنين في آذان المجتمع الذاهب بقوة نحو المزيد من الاقتناء والاستعراض والاشباع. على اعتبار أن الاستهلاك يعادل الحياة الراقية. الاستهلاك إذاً لم يعد مشكلة وفق هذا المنظور، لأنه يحقق المنفعة لفئات كثيرة، بل يجلب السعادة، بما يحمله من خصائص وظيفية تتجاوز النفعي إلى الجمالي. فالمجتمع الاستهلاكي بقدر ما هو مشبع على مستوى الحاجات المادية، هو متطامن على مستوى الرغبات النفسية والمعنوية. حيث يبدو على درجة من الغنى والأناقة والرفاهية. وكل تلك المظاهر المتأتية من وجود سوق استهلاكي حر، أدت إلى الحد من النبرة النقدية التي تدين سلوك المستهلك وتعزز قيم الزهد، فالحياة بموجب هذا المنطق هي محل مثالي للتغذية الجيدة والملبوسات الفاخرة والمساكن الفارهة والكماليات الفائضة، بمعنى أن الإنفاق لم يعد مرتبطاً بمستوى الدخل، بل بالصورة التي يريد الفرد أن يعكسها عن نفسه والمنزلة التي يحاول أن يبدو عليها اجتماعياً. هكذا صارت أنماط الإنفاق المتمادية تحدد النهج الاجتماعي الجديد وترسم مساراته، فكل حديث عن الأزمات الاقتصادية أو عدم كفاية الراتب لا تعني شيئاً في الوعي الشعبي مقابل ما نلاحظه من بذخ معلن في كل مظاهر حياتنا، فهناك أذواق استهلاكية مشتركة يتواطأ عليها الجميع كحالة من حالات التمويه الاجتماعي، وهذا هو جوهر نظرية (الطبقة المرفهة) التي حاول بموجبها تورشتين فيبلين كشف آلية الإنفاق الاستهلاكي الصريح للتدليل على ارتفاع مصدر الدخل والتأكيد على المنزلة الاجتماعية. كل فرد صار يعيش حالة من رُهاب الطعن في ذوقه وإمكانياته المادية، مقابل انهيار شامل للقيمة الثقافية التي تضبط معيارية الشخصية وحضورها الاجتماعي، حيث صارت الفئة أو الطبقة الأكثر قدرة على الإنفاق أو الاستهلاك هي المعيار. وهي التي تقود باقي الفئات والطبقات، لدرجة أن الهرم الاجتماعي صار ظاهرياً بدون قمة ولا قاعدة. الاستهلاك لم يعد مرتبطاً بدخل الفرد ولا تحصيله العلمي ولا مكانته الاجتماعية ولا قدراته الثقافية، فأنماط الإنفاق المتفاوتة لا تعكس طبيعة البنية الاجتماعية وحسب، بل يراد منها التأكيد على الانتماء إلى فئة اجتماعية متميزة تفصح عن نفسها من خلال الذوق الرفيع، والسلوك الراقي، إلى جانب الممتلكات الفائضة عن الحاجة.