خاصية تتميز بها الشعوب العربية دوناً عن كل خلق الله على الأرض،وهي خاصية تستحق التعجب والتفسير،وهي أن هذه الشعوب تلجأ إلى النكتة والسخرية كلما إشتد بها القهر. تهرُب هذه الشعوب من نار القهر إلى ماء النكتة،تتظلّل بشجرها،تنسج منها مناديل تمسح بها دموعها،وضماداً تداوي به تلك الجروح التي يعزّ عليها دواؤها وشفاؤها. تصنع هذه الشعوب من آهاتها نكات تتعاطاها كمسكّنات تخفي خلفها شيخوخة أوجاعها،وضحكات تداري بها مرارة حياتها،وضنك عيشها،وكلما ازدادت حدّة القهر لديها ازدادت حدة النكتة المُنتجة من قِبَلها،وكلما ضاقت أمامها السبل حاولت فتح باب لها في سقف نكتة،أو معْبَر في سخرية. أصبحت النكات لدى هذه الشعوب ليست دليل رفاهية،ولا مظهراً من مظاهر ترف الحياة ونوافلها،بل على العكس تماماً من ذلك، النكتة أصبحت مؤشراً على ارتفاع درجة الغليان الشعبي، و»يافطة» الاحتجاج التي ترفعها الضحكات،واللافتة التي يكتبها الألم بدم الأمل القتيل، وناقوس الخطر وطائر النذير، وحائط المبكى التي تسطّر عليه حرقة المشاعر وتُكتب بأظافر الهمّ! تصنع هذه الشعوب من آهاتها نكات تتعاطاها كمسكّنات تخفي خلفها شيخوخة أوجاعها،وضحكات تداري بها مرارة حياتها،وضنك عيشها،وكلما ازدادت حدّة القهر لديها ازدادت حدة النكتة المُنتجة من قِبَلها،وكلما ضاقت أمامها السبل حاولت فتح باب لها في سقف نكتة، أو معْبَر في سخرية. النكتة علامة خطر حقيقية،لدى شعوب تئن وتتوجّع وتتجرّع المرّ، ومجبرة فوق ذلك على تقييد صوتها بسلاسل من حديد وأصفاد ثقيلة لآهاتها،محرّم عليها أن تعبّر عن بؤسها وتعاستها،ومحرّم عليها أن تبكي علناً،أو أن تُجهر بشكواها،بل أنها أحياناً مجبرة على افتعال السعادة والفرح،والحمد والشكر امتناناً لما هم فيه مقارنة بشعوب أخرى مثلهم بائسة أو أكثر بؤساً! هنا تخترع الشعوب النكات مخرجاً من نفق أحلامها المظلم،ونافذة تُطلق من خلالها صرخات مظلوميها وآهاتهم الطازجة،يقولون فيها ما لا يقال،يشتمون كما يشاءون،ويسخرون ممن يشاءون ابتداء بأنفسهم وليس انتهاءً بأسباب تعاستهم ومن سبّبها! تختلط في تلك النكات ابتساماتهم بدموعهم،وآلامهم بسعادتهم،وتعاستهم برضاهم حتى وإن كان هذا الرضا مؤقتاً. تصبح النكتة هي السيف والخنجر والرصاصة التي تحارب بها هذه الشعوب الظلام،وهي الدرع الواقية ضد انهيار روحها, وهي أنشودة الحرب الحماسية ضد الخنوع. باعتقادي أن النكتة تُستخدم كحيلة مبتكرة لدى الشعوب التي تشعر بالاضطهاد لهدم جدار الخوف،ومعول لكسر الحاجز النفسي الذي يحول بينها وبين التمرّد الصريح والمباشر،وهنا تكمن الخطورة الحقيقية لصناعة النكتة فهي لا تكون آخر المطاف في مسيرة الرفض والاحتجاج،فقد تأخذ النكتة عمرا طويلا من حياة هذه الشعوب إلاّ إنها تتحوّل مع الزمن إلى كُرةٍ من نار،تحرق من كانوا يستهترون بها،ويقلّلون من جدواها وتأثيرها مع الزمن، فمن قال:»دعهم يا سيدي يقولون ما يقولون،فلن يفعلوا سوى الكلام» ومن قال:»انها مجرد مزحة ستُنسى مع الوقت» لم يصْدِقوا النصح،ولم يحْسِنوا المشورة. إن أكثر المجتمعات عرضة للانفجار، هي تلك المجتمعات التي يتميز أفرادها بأن «دمهم شربات»، فهذا الدم الشربات يتحول مع الوقت إلى نفط يسري في شرايين هذه المجتمعات ولا تصبح هذه المجتمعات بحاجة لأكثر من عود ثقاب ليشعلها.