في برنامج حواري قريب أجاب أحد المفكرين العرب بأن من أهم الأوعية الثقافية التي ينبغي للمثقف أن ينهل منها بلا توقف وأن يستزيد منها بلا اكتفاء هي القراءة والسفر . ولكون القراءة منهلا ثقافيا بدهيا ويكاد يكون معروفاً للجميع كنهر ثقافي لا ينضب وبحر معرفي لا ساحل له إلا أن ما استوقفني وأثار انتباهي هو الأمر الثاني الذي ذكره ( السفر ) . فهل يكون السفر رافداً من روافد الثقافة ؟ والحقيقة أن من جرب وسافر وجعل هدفه من السفر زيادة ثقافته فقد وفق في تحديد الهدف ونجح في تحقيق الغاية ، ففي السفر ثقافة لا يمكن أن تقتنى من بين أغلفة الكتب وفيه سعة اطلاع لا يمكن أن تتحصل من بين سطور المجلدات . وقد كان الإمام الشافعي محقاً حين أثنى على السفر في أبياته المشهورة ( تغرب عن الاوطان في طلب العلا / وسافر ففي الأسفار خمس فوائد ، تفرج هم واكتساب معيشة / وعلم وآداب وصحبة ماجد ) . يصاب بالعقم حين يكون المثقف مستقراً ساكناً في مكانه لا يتحرك ولا يسافر ولا يطلع على الجديد في سفره على العكس تماماً من ذهن المثقف الولود بالحركة والانطلاق إذ أن ما يراه ويشاهده في بلاد الله الواسعة تولد في ذهن المثقف طاقة عنيفة تتمخض عن أفكار جديدة وابداعية وأعرف من المثقفين من لا يفوت إجازة إلا ويسافر فيها إلى أصقاع الأرض شمالها وجنوبها وشرقها وغربها ووسطها وفي سفره يتجول في المتاحف والمعالم الأثرية ويزور المكتبات ويقتني الكتب ويحضر المسرحيات العالمية ويلتقي بأصدقاء الحرف وزملاء الكلمة ويتعرف على عادات الشعوب وينظر بنظرة المثقف الدقيقة لأحوال الناس وطبائعهم فيعود وقد تزود بالكثير من المعلومات الثرية والمعرفة الإيجابية هذه المعرفة بالإضافة إلى أنها مغلفة بالترفيه عن النفس والاستجمام بعيداً عما اعتاد عليه في مجتمعه الصغير وفي إطاره المحدود . وحينما أتحدث عن الثقافة بوصفها وعاء ثقافيا التقط بمزيد من الإعجاب والتأييد ما ذكره الشاعر إذ يقول :( الأسد لولا فراق الغاب ما قنصت / والسهم لولا فراق القوس لم يصب ، والشمس لو وقفت في الفلك دائمة / لملها الناس من عجم ومن عرب ، والبدر لولا أفول منه ما نظرت / إليه في كل حين عين مرتقب ) . وحين قال احدهم في السفر ( الحركة ولود ، والسكون عاقر ) فلا أدري إن كان حين قالها يعلم أنه يؤكد على أمر حتمي في ذهن المثقف الذي يصاب بالعقم حين يكون المثقف مستقراً ساكناً في مكانه لا يتحرك ولا يسافر ولا يطلع على الجديد في سفره على العكس تماماً من ذهن المثقف الولود بالحركة والانطلاق إذ أن ما يراه ويشاهده في بلاد الله الواسعة تولد في ذهن المثقف طاقة عنيفة تتمخض عن أفكار جديدة وابداعية مفيدة . ( تنقل فلذات الهوى في التنقل / ورد كل صافٍ ولا تقف عند منهل ، ففي الارض أحباب وفيها مناهل / فلا تبك من ذكرى حبيب ومنزل ) وحين أتناول السفر هنا وأهميته للمثقف فأنا قطعاً أتناوله باعتباره منهلا ثقافيا لا يمكن إدراك قراره مع الاعتراض بالطبع ورفع البطاقة الحمراء للشاعر حين يكون قصده التنقل من حبيب إلى آخر مع أنه يجوز للشعراء ما لا يجوز لغيرهم كما يقال . وأعتقد جازماً أننا وصلنا إلى قناعة تامة في أهمية السفر للمثقف ولكن لا أدري ما هو الموقف أو المواقف التي مر بها القاضي الطرطوشي فجعلته يعارض قصيدة الإمام الشافعي في السفر بهذه القصيدة الطريفة (تخلف عن الأسفار إن كنت طالباً / نجاة ففي الأسفار سبع عوائق ، تنكر إخوان وفقد أحبة / وتشتيت أموال وخيفة سارق ، وكثرة إيحاش وقلة مؤنس / وأعظمها يا صاح سكنى الفنادق ، فإن قيل في الأسفار كسب معيشة / وعلم وآداب وصحبة فائق ، فقل ذاك دهر تقادم عهده / وأعقبه دهر كثير العوائق ، وهذا مقالي والسلام مؤبد / وجرب ففي التجريب علم الحقائق ) . twitter: @waleed968