للمسافر خصوصية تعبدية في الرخص وتيسير الأحكام والضوابط، وله خصوصية اجتماعية، فأهله وأحبته يسمونه الغائب، وأهل البلد الذي قصده يسمونه الغريب أو السائح، وبالتأكيد له خصوصية عاطفية، تبدأ بالفراق أو ألم الوداع حتى لو كان سفره موقتا، ثم وجع الشوق واللهفة، وإذا كان الإياب حميداً فاللقاء وفرحته وبريق العيون التي طالما ترقبته بطبقة رقيقة كونتها دمعة، ظلت تستجمع قواها الحزينة لتنزل لحظة اللقاء. وللسفر دواعٍ دينية كالهجرة من دار الى دار، كما جاء في الحديث الشريف، لتكون في سبيل الله، ودواعٍ اجتماعية غيرت كثيراً في ملامح الأسر والقبائل قديماً، ثم هاهي تغير في أساليب عيش المجتمع حديثاً، إذا كان فعل السفر مقصوداً ومنظماً، والدواعي العاطفية كثيرة للسفر، من هارب من قصة حب إلى لاجيء إليها. في أدبيات العرب جواهر ودرر عن السفر، من «سافر ففي الأسفار» إلى «يا أيها المسافر في دمي»، ويمكن اعتبار لفظة السفر مثالاً لتحولات فكرية واجتماعية تنامت سمواً أو تهاوت ابتذالاً، شكلت في مجملها علاقة مع الفعل، فعل السفر لا يمكن تاطيره بمجرد ركوب بعير، أو فرد شراع سفينة، أو شراء تذكرة آلة حديثة من وسائل السفر. وفي شعبيات الطرب وحديثه يمكن تذكر عشرات العناوين من «حان وقت السفر» إلى «لا تلوح للمسافر» مروراً بمسافرين كثر يخالفون رغبات الحبيب الذي يريدهم إلى جواره ولو ضحوا بإجازاتهم، أو رضى أهلهم وأصدقائهم. يسافر البشر للعمل، التعلم، التطبب، التمتع، واختبار قدراتهم على الفراق، وقدرات الآخرين على الصبر، وللهروب من المسؤوليات، وأحياناً من الزوجات، ويسافرون للتباهي، ويسافرون لمجرد أن السفر أصبح عادة، ويفعلونه أحياناً دونما أي هدف أو رغبة. البعض يسافر ويجول في الدنيا وهو في مكانه، إما مثقف يجوب الكتب والأفلام الوثائقية، أو مثل صاحب «المكيف» الشهير الذي يتحدث عن محبوبته في جنيف وباريس وهو قابع في غرفته، والذي يرى العالم ويجول فيها من خلالها وهي ترى العالم بالنيابة عنه. والبعض الآخر لم يبق مكان إلا وزاره، لكنه فعلياً لم يسافر إذ نقل معه كل تفاصيل حياته في مستقره، وأجوائه، وربما أيضاً أصدقائه، ليكون الفعل نقل جغرافي للمعيشة لا تعرف له سبباً ولا تدرك له طعماً. لعقود كثيرة، كان موضوع التعبير في أول درس مع بدء الدراسة «الإجازة الصيفية»، ويبدو لي أن اختلاف ثقافات بعض الناس بُني على السؤال الذي وجهه المعلم: إلى أين سافرت؟ أو كيف سافرت؟ ولماذا سافرت؟ [email protected]