مشري، أيها الصديق الراحل والمقيم في القلب. طُفْتَ بالذاكرة، يا عبد العزيز، وأنا حبيس غرفة العناية الفائقة، ومقياس ضغط الدم المبرمج يطوق عضدي؛ يوقظني بين حين وآخر من غفوتي المختلسة. الغفوة التي اختلسها فجرا من صوت قياس نبض القلب الرتيب؛ من أنبوب القسطرة، من الأسلاك الموصولة بالصدر والخاصرة، ومن أنبوبي ضخ الأكسجين في الأنف؛ الأنابيب والأسلاك التي تحول الجسد إلى جهاز استقبال وإرسال. هي نفسها الغفوة التي اختلستها من الممرضة التي لا تمنح جسدي حقنة إلا لتسحب منه أخرى. تذكرتُ، كذلك، يا صديقي، والممرضة تحقنني بدماء أخرى الشاعر الفلسطيني خفيف الدم إبراهيم طوقان، وقد سأله الطبيب عن فصيلة دمه فقال: «لك ما شئتَ يا طبيب ولكن.. اعطني من دمٍ يكون خفيفا!». لا تقلق، يا صديقي، فلم تحرمني غرفة العناية الفائقة من حس الدعابة، ما زلت أضحك، وما زلت وفيا لكلماتي القائلة: «أنا بالضحك أستعين على الحمّى إذا ما تعاظمتْ فتهونُ». ويبدو أن الدماء التي أضيفت إلى دمي القديم هي دماء أشخاص ظرفاء. وتذكرتُ، وقد تخشَّب جسدي، قول الشاعر اللبناني بولس سلامة: «إن حظي من الحياة سريرٌ صار مني فلم يعدْ خشبيّا»! تذكرت كذلك أوراق الغرفة (8) للشاعر أمل دنقل. لا أضيف إلى معلوماتك جديدا، يا صديقي، إذا قلت إن ليل المستشفيات «مش للنوم.. أصل الليل للسهر» كما تقول فيروز. ولكن شتَّان بين سهر وآخر؛ بين سهر مُمتع وسهر مُوجع. هنا؛ في هذه الغرفة، وفي الساعة الثالثة صباحا، يوقظك فني الأشعة من غفوتك المختلسة ليضع صفيحة باردة وراء ظهرك العاري، يلتقط الصورة ويمضي. ثم تناولك الممرضة أقراص الدواء وتمضي، ثم ينظف عامل النظافة الغرفة ويمضي، ثم يسلمك مسؤول التغذية وجبتك ويمضي. هنا، يا صديقي، وفي سهر هذه الغرفة تُسلمك الممرضة المشرفة على تطبيبك إلى ممرضة جديدة ثم تنصرف دون أن تلقي نظرة وداع، فأنت في هذه الغرفة الساهرة مجرد رقم؛ مجرد عهدة. أتأمل باقات الزهور فتأخذني التداعيات إلى العنوان اخترتََه ذات يوم لمجموعتك القصصية «الزهور تبحث عن آنية». أصبحت بعد هذه التجربة أعي بشكل أعمق دلالات ذلك العنوان. كلنا، يا صديقي، في هذه الغرفة الصغيرة نبحث عن طوق نجاة، عن آنية تنقذنا من الذبول. نبحث عنها في عيون الأهل والأصدقاء المحبين، وفي ابتسامة الممرضة، وعبارة الطبيب القائلة: «كله تمام»، وفي أنبوب المغذي وأقراص الدواء. أبرز ميزات وحدة العناية المركزة، يا صديقي، هي أنك لا تسمع نشرات الأخبار، ولا تخاريف محلل استراتيجي ليس له من لقبه نصيب، ولا حوار الطرشان على بعض الفضائيات العربية، ولا الخطابات المحرضة على الكراهية. ولا ترى خراب الديار يُبثّ على الهواء مباشرة. لا تسمع هنا إلا ثرثرة الممرضات الساهرات عند باب الغرفة. لا تقلق، يا صديقي، فلم تحرمني غرفة العناية الفائقة من حس الدعابة، ما زلت أضحك، وما زلت وفيا لكلماتي القائلة: «أنا بالضحك أستعين على الحمّى إذا ما تعاظمتْ فتهونُ». ويبدو أن الدماء التي أضيفت إلى دمي القديم هي دماء أشخاص ظرفاء. قبل أسبوع، وبعد أن انتهت عملية نقل الدم ، نظرت إلى المحيطين بي وقلت: «أنا الآن إنسان جديد تجري في عروقه دماء جديدة». ليس هذا فحسب، بل إني أصبحت، بفعل هذا الدم الجديد، شخصا عالميا (كوزموباليتان) متعدد الهويات، ولا أملك، إذن، إلا أن أحتضن العالم، وأحب كل شعوب الأرض على اختلاف ثقافاتهم ومللهم وأعراقهم. نعم.. فخير لنا، ألف مرة، أن نكون مرضى الأجساد من أن نكون مرضى الأرواح والعقول. [email protected]