في احدى صالات البنوك جمعتني الصدفة بكهل في الستين من عمره ، وطلب مني رقم أحد المختصين النفسيين الذين سبق أن استضفته في أحد حلقات لقاء الجمعة ، وبدأ هذا الستيني بالتأفف والتذمر من حال أبناء هذا الزمن وختم حديثه معي بكلمة «جيل أقشر» . إننا نعيش حالة جديدة من «صراع الأجيال» المتكرر ، فالجيل القديم يرى أن الجيل الجديد لا يحترمون القيم كما يجب ، ولا يراعون العادات والتقاليد المجتمعية ، وسلوكهم فيه تجاوزات لا يمكن القبول بها ، وعلى الضفة الأخرى يرى الجيل الجديد أن الجيل السابق لا يستطيع فهمهم ، والعصر تجاوز عقلياتهم القديمة ، ومازالوا يحاولون الإمساك بالقرار أطول وقت ممكن ، ومتشبثون بالنفوذ إلى النهاية . المشكلة طبيعية في أساسها وهذه سنة من سنن الحياة ، والحكيم من يحاول تقليل الفجوة بين الجيلين بالتسلح بلغة «التفهم» وبعقلية «المرونة» ، ولكن الهوة بين الجيلين مرشحة للاتساع أكثر في هذا الزمن بسبب التقنية وثورة الاتصال التي تعزز «الفردية» ، فنحن نتعامل مع كمية ضخمة من البرامج تطلب اسم المستخدم ولا تهتم باسم العائلة ، والجيل القديم يحس بالأمية أمام هذا التدفق التقني الذي أخرجه من ملعب التأثير مبكراً . جيل الأمس كان يتأثر بالقدوات ويستسلم لسيطرتهم ، وكان الأب والجد والمعلم وإمام المسجد والشيخ خطوطا حمراء يصعب تجاوزها ، واليوم تتحطم القدوات أمام هذا الجيل ، والقداسة صنم قد كسر في أعراف هذا الجيل ، ولذلك لا يمكن الوصول للقيم بنفس الطريقة السابقة التي كان يستخدمها الجيل السابق . ومن مشكلات الجيل القديم أنه لا يثق كثيراً بجيل اليوم ، ويعتبر طموحه أكبر من إمكانياته ، ولو تركت له الحرية الكاملة لذهب إلى الهاوية ، بينما يرى الجيل الحديث أن الجيل القديم هو جيل ديكتاتوري تسيطر عليه عقلية السلطة المطلقة ويطمح للوصاية الكاملة بأدوات العقاب والطاعة والحزم ، ويتذمر من الجيل الجديد لأنه يقتل سلطة الأب عنده . لابد أن نتفهم ونعيش الحالة الثقافية للجيلين ، فكل منهما له طريقته الخاصة التي ينظر للعالم من خلالها ، فشكل الدنيا عندهما مختلف ، ومقاييس الجمال والذوق والفن لها معايير أخرى غير متطابقة ، والحوار بين الجيلين ضرورة للفهم والتعايش ، وضمان المساحة الكافية للتحرك خارج إطار الجيل السابق حق يجب ضمانه ، وإلا تحول عدم الفهم وغياب الحوار إلى حالة من العداء والصدام . «المجايلة» مطلب مثالي لا يطالب بها وهي بمفهومي الخاص: فن القفز عبر السنين إلى الجيل الجديد ، وبالطبع لن يكون واحداً منهم ولكنه يندمج ويتفاعل وينصهر مع عجلة الزمن . ولذلك أقول لحرس الجيل القديم: إن أحلام الجيل الجديد ليست هي أحلامكم ، وأنتم الأقلية في هذا المجتمع وهم الأكثرية ، فامنحوا أحلامهم الفرصة ، وأعدكم بأن يستسلموا لجيل قادم في مستقبل الأيام ...