لا يرى الأديب المصري يوسف القعيد (1944) عيباً في وصفه بكاتب الهم الاجتماعي ... «النص الذي يستبطن ذات الكاتب من داخله لا يهمني كثيراً»، يقول. ويعتبر صاحب «الحرب في بر مصر» أن نتاجه الأدبي لم يقرأ في شكل جيد حتى الآن، ويرفض فكرة المجايلة في الأدب ويصفها بأنها شديدة الغموض. وفي إشارة إلى البدايات يقول: «عندما بدأت الكتابة كان الهدف تغيير العالم إلى الأحسن، أما الآن فأنا أكتب ليشعر قارئي ولو بمقدار ضئيل من المتعة». ويؤكد القعيد أن على رغم الكسل العقلي الذي أصاب الواقع الأدبي فإن الكتابة الروائية العربية في سنواتها الأخيرة تشهد ازدهاراً. وهنا حوار معه: دعنا في البداية نستعدْ ذكرياتك عن فترة التكوين؟ - بعد القرآن الكريم كان الجزء الأول من «ألف ليلة وليلة»، طبعة «دار الهلال»، هو أول كتاب أقرأه وقد وقع في يدي بالصدفة في مكتبة أقرباء كنت في زيارة لهم بصحبة والدي. بمجرد أن قرأت عبارة «بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد»، حتى وقعت في دائرة سحر ما زالت تلفني حتى هذه اللحظة، وكأنها كلمة السر التي أفهمتني ماذا نعني بالحكي. بعد هذه القراءة عدت إلى القرآن الكريم لأتأمل ما فيه من سرد خصوصاً في سور مثل «مريم» و «يوسف». القرية التي تكتب عنها والتي تعد ملمحاً أساساً في مسيرتك الإبداعية، لم يعد لها وجود، فهل هذا نوع من الحنين إلى الماضي؟ - نعم، عندي حنين دائم إلى الماضي. أحن إلى القرية التي نشأت فيها ودائماً ما أعبر عنه بالكتابة. عشت في القاهرة ما يزيد على 30 سنةً ومنذ أن وطأتها قدماي وحتى هذه اللحظة وأنا أحلم باليوم الذي أعود فيه مرة أخرى إلى القرية كي أعيش فيها. وصفت من قبل بعض النقاد ب «كاتب الهم الاجتماعي»، كما يؤخذ على كتاباتك أنها شديدة المباشرة والواقعية؟ - الواقعية ليست تهمة والنص الذي يهرب من الهم الاجتماعي لا يعجبني، والنص الذي يستبطن ذات الكاتب من داخله لا يهمني كثيراً. أما قضية المباشرة فالسؤال هنا هل هذه المباشرة على لسان المؤلف أم على لسان الأبطال؟ للأسف الشديد واقعنا الأدبي أصبح محاطاً بكثير من الأحكام العامة الأقرب إلى الشائعات التي يأخذها الذين لا يقرأون أو الذين أصيبوا بكسل عقلي على محمل الجد. لا يوجد في كل رواياتي كلمة واحدة على لسان السارد، وأنا لا أستنطق أبطالي كلاماً لا يمكنهم قوله. المتتبع رواياتك يلحظ حرصك على التحديد الزماني والمكاني في شكل صارم؟ - لأنني ضد الكتابة التجريدية. ضد الكتابة التي تسبح في الفراغ. فالكتابة لا بد من أن تنطوي على نوع من المواجهة بشرط أن تعتمد على جماليات. هل ترى أن للأدب وظيفة ما؟ - أستاذنا نجيب محفوظ كانت له مقولة اعتبرها دستوراً التزم به على رغم اننى كنت ارفضها بشدة عندما كان يرددها: «إذا لم تجد ما تريد، فاطلب ما يكون». في الماضي كنت أقول إنني أكتب كي أغير العالم إلى الأحسن وكي يشعر القارئ أن ثمة خطراً ما يحيط بهذا العالم وبالتالي فإنه وبمجرد أن ينتهي من القراءة سيتحرك لتغيير هذا العالم. هذا كان الهدف من الكتابة في ستينات القرن المنصرم. لكن واقع الحال يقول إن كل ما كافحنا من أجله هزمنا فيه وإن كل ما راهنا عليه هزمنا فيه أيضاً وفي شكل مطلق. أنا الآن أكتب ليشعر قارئي ولو بقدر ضئيل من المتعة وليتعاطف مع أبطالي ومع ما يطرحونه من قضايا إن كان هذا ممكناً. احتلت الحرب مكانة بارزة في مسيرتك الإبداعية فكيف تراها إنسانياً وروائياً؟ - هناك تجربتان لا يمكن أن يكتب عنهما الكاتب من الخيال، بل لا بد من المعايشة، وهما تجربتا السجن والحرب، فتفاصيل كل منهما تختلف تماماً عن تفاصيل الحياة العادية. أنا استغرقتني الحرب طويلاً بحكم أنني كنت مجنداً في وحدة الخدمات الطبية في الجيش المصري لتسع سنوات، وهي وحدة غير مقاتلة، ولذلك يندرج كل ما كتبته انطلاقاً من هذه التجربة تحت تأثير الحرب على الواقع الاجتماعي المصري. مثلاً «الحرب في بر مصر» كانت تدور حول تجربة استلام جثة شهيد مصري وتوصيلها إلى قريته. لكنك عدت إلى تجربة الحرب مرة أخرى في روايتك «أطلال النهار»؟ - هذه الرواية كتبتها لأخرج تجربة الحرب من داخلي نهائياً، وعلى رغم هذا فإن الموضوع ما زال يناوشني فأنا أعتقد أن يوم الاثنين 5 حزيران (يونيو) 1967 ما زال حياً بداخلنا اكثر بكثير من يوم السبت 6 تشرين الأول (أكتوبر) 1973. بعضهم يرى أن كل ما كتب عن حرب 1973 ليس على مستوى الحدث؟ - بعد مرور عام واحد على تلك الحرب رصدت دار نشر لبنانية مئة نص أدبي عربي كتبت عنها. لكن كل من كتبوا هذه النصوص كانوا يجرون وراء عناوين براقة ويرددون أشياء غير حقيقية. المشكلة تتمثل في أننا نخلط بين الأدب والإعلام. هم يريدون إعلاماً يمجد ما جرى. أنا شخصياً أرى أن هذه الحرب صنعها فقراء المصريين وحوّلها الأغنياء إلى مشاريع استثمارية ولهذا استهليت رواية «أطلال النهار» بعبارة تقول : «يا خوفي من يوم النصر ترجع سينا وتضيع مصر». ما جرى لن يُكتب في شكل صادق وحقيقي إلا بعد أن يختفي من على المسرح كل من شاركوا فيه. لديك شغف خاص باستدعاء الكثير من المقولات والأمثال الشعبية، فضلاً عن المفردات والتراكيب اللغوية الخاصة، كيف ترى العلاقة بين لغة الكتابة ولغة الحياة اليومية؟ - أبطالي أميون، بالتالي لا أستطيع أن أجعلهم ينطقون بالفصحى. أنا ابن الحلم القومي العربي، وهذا قد يعني لدى البعض أن أعادي العامية لأنها ضد وحدة الوجدان العربي. اللغة يجب أن تكون قريبة من الشخص الذي ينطقها، وأنا ضد أن أذهب إلى التراث كي استحضر مفردات لأستخدمها في الكتابة. دائماً ما تصرح بأن جيل الستينات الذي تنتمي إليه هو جيل مظلوم؟ - كانت الساحة الأدبية في مصر الستينات تزخر بأسماء كبيرة، ولكن جيلنا هو الذي تصدى لمهمة التعبير الأدبي وتمثيل الثقافة المصرية، ومع ذلك ظل الخطاب النقدي يصفنا حتى وقت قريب ب «الأدباء الشبان»، مع العلم أن بعضنا تخطى سبعين سنة من عمره. في أوقات كثيرة تقتل ممارسة الصحافة الإبداع أو على الأقل تعطله كيف تعاملت مع هذه الإشكالية؟ - غير صحيح تماماً. مهنة الصحافة من أفضل المهن للأديب عموماً والروائي تحديداً. هناك مقولة جميلة كان ماركيز يرددها نقلاً عن هامنغواي : «تناسب الصحافة الروائي تماماً بشرط أن يعرف الوقت الذي يعتزلها فيه». وعلى المستوى الشخصي عملي بالصحافة أفادني كثيراً كأديب، ويكفي انه رفع القداسة عن الأدب. كيف تتعاطى مع فكرة المجايلة في الأدب؟ - أنا ضد هذه الفكرة تماماً واعتبرها من أكثر الأفكار غموضاً. لماذا؟ - لأنها تقع في منتصف المسافة بين علم اجتماع الأدب والنقد الأدبي. من الصعب تحديد أين يبدأ الجيل وأين ينتهي. نجيب محفوظ نشر عمله الروائي الأول عام 1934 فهل يعتبر من جيل الثلاثينات؟ طبعاً لا، لأن نضجه الحقيقى كان أواخر الأربعينات، وإنتاجه الذهبي من وجهة نظره هو شخصياً ينحصر في الفترة من 1959 حتى 1969 وهذا يعني أنه من جيل الستينات. الجيل عصر بأكمله وفكرة الأجيال تحتاج إلى تنظير حقيقي يقوم به علماء فى الاجتماع والسياسة والنقد الأدبي. هل ترى انك ظلمت نقدياً؟ - معظم النقاد يكتفون بقراءة الصفحات الأولى من النص الذي يتصدون للكتابة عنه. المعاصرة لعنة. المبدع عندما يعاصر نقاده فإما أن يكون في القمة وإما أن يكون منبوذاً. أنا أعتقد أن إنتاجي الأدبي لم يقرأ في شكل جيد حتى الآن. بعضهم يأخذ على كتاباتك أنها مسكونة بالمقولات الكبرى؟ - المقولات الكبرى يمكنني كتابتها في مقالاتي الصحافية. أما الكتابة الروائية فأحرص على أن تحمل قدراً من المغامرة الفنية وان تتجاوز ما كتب قبلها. الكُتّاب في العالم نوعان. نوع يكتب للنخبة وآخر يكتب للعامة، وأنا أزعم انني من الصنف الأخير. لست من هؤلاء الذين يكتبون وعينهم على النخبة حتى تقرأ وتمتدح ولست من النوع الذي يرسم لنفسه صورة ويسعى عبر كتاباته أن يصدرها للناس وأن يختفي خلفها. على ذكر النخبة، هل تتفق مع الرأي القائل بأن إبداع الكاتب وحده لا يكفي وأنه يحتاج إلى قوى اجتماعية ترفعه؟ - نعم، إن كان المقصود بالقوى الاجتماعية النخبة، فالكتابة لم تعد هي الجوهر في أن يصل النص إلى الناس أو لا يصل، في أن يؤثر أو لا يؤثر. هناك أشياء كثيرة قلبت الموازين كافة. لقد ظللت طوال مسيرتي مع الكتابة أراهن على القراء. أما الآن وبعد أن تسرب هؤلاء القراء، على من أراهن؟ وما هي الجهة التي أتوجه إليها بكتاباتي. بعض النصوص الذي قدمته تحول إلى أعمال سينمائية وتلفزيونية، ما الذي يمكن أن يضيفه هذا الأمر للأديب؟ - بالنسبة لي الإضافة أساسية، فتحويل النص الأدبي إلى عمل سينمائي أو تلفزيوني يساهم في إيصال أعمالي إلى من لا يستطيعون القراءة. تستمد رواية السيرة الذاتية أهميتها من فعل البوح، هل فكرت في كتابة سيرتك؟ - أنا ضد نصف الكتابة، نصف البوح، نصف الحقيقة. وإذا أنني قررت كتابة سيرتي الذاتية فسأسميها «كتابات الدرج المغلق»، وسأتركها لتنشر بعد رحيلي. كيف ترى واقع الكتابة الأدبية في مصر؟ - كثير من الكتابات الآن لا يعنيها الشكل الفني كما لا تعنيها فكرة البقاء أو الخلود ولا حتى فكرة التأثير. كل هذا لا أريد أن احكم عليه، لكني أستطيع القول إن الكتابة في مصر الآن تمر بمرحلة مخاض قد يخرج منه شيء جديد وقد لا يخرج. الثوابت القديمة في الكتابة لم تعد صالحة للاستمرار والجديد لم يعبر عن نفسه في شكل جيد. المسرح الآن يتنازعه طرفان، أجيال قديمة لا تريد أن تغادر وتصر على البقاء وعدم الانصراف وأجيال جديدة ليست لديها الشجاعة كي تخرج لتعبر عن نفسها. هناك حالة سيولة في الواقع الثقافي المصري. إنها حالة فوضى غير خلاقة. وما هو تقويمك للمشهد الروائي العربي؟ - الرواية هي اكثر فنون الكتابة العربية نشراً. هذه حقيقة لا يجادل فيها أحد. علماء اجتماع الأدب يقولون إن الرواية تزدهر عند مراحل الاستقرار الاجتماعي وانه في مراحل التغييرات الاجتماعية يحدث العكس. لكن ما حدث انه ومنذ منتصف السبعينات وعلى رغم حالة الفوران الاجتماعي غير المسبوق فقد ازدهرت الرواية. وماذا عن آخر مشاريعك الأدبية؟ - كتاب يحمل عنوان «متحف البراءة»، أقدم فيه آخر صورة تذكارية للقرية المصرية في السنوات الأخيرة. القرية التي كتبت وصيتها ورحلت عنا من دون أن ننتبه لتحل محلها قرية أخرى تحمل قدراً كبيراً من البشاعة. هذا إلى جانب رواية سأنشرها قريباً عنوانها «المجهول».