التسييس الأيديولوجي، واحد من ابتلاءات بني الإنسان، بمد التاريخ وعرضه. ويبدو أنه سوف يطغى أيضاً في المستقبل، فالبشر يتقدمون علمياً، لكنهم يتوحشون فكرياً واجتماعياً، ويعظمون المصالح وطغيانها، دعك من المنمقات وفنونها. وتحت الأضواء الساطعة لمنابر حقوق الإنسان، ودعاة الحرية المؤدلجين، تجري مصادرات عنيفة للمثل الإنسانية، وتوظيفها سياسياً، لجني المزيد من المصالح وكنوز الدنيا. وكلما أخذت الأرض زخرفها وازينت، أنتجت المزيد من الأحزاب التي تختطف ضمير الإنسان لتحوله إلى مسحوق كمالي لدعم المصادرات وتعظيم الأنانيات الطماعة الأكول. حقوق الإنسان حولتها دول الغرب إلى سيف يرهب كل الناس، لكنه يتخاذل أمام الترويج السياسي والمصالح. في مرابع الدنيا المنكوبة تحولت قضايا الضمير النبيلة إلى شعارات وبروبغنديات لتمكين الأحزاب، لتمسك بتلابيب الناس وتختطف مصائرهم. وفي بلاد المسلمين حولت الصفوية الخرافية، والإخوانية المنافقة، الدين إلى سلعة سياسية للتمكين الحزبي والتضليل. في أحداث الجزائر الأخيرة، وفي أحداث عربية أخرى، لم يتوان السياسيون عن توظيف القضاء ومهنة الطب وبراءة أطفال المدارس. وكان يجب أن ينأى القضاء بنفسه عن الصراع السياسي، ليكون ضماناً للعدالة لكل الناس، فإذا سيس القضاء، من يضمن ألا تسيطر الأهواء السياسية في المحاكم وتختطف العدالة. ومنذ أن سيطر الإخوان المسلمون على نقابات الأطباء في العالم العربي، أصبح الأطباء يخوضون في السياسة أكثر مما يجتهدون لتطوير مهنتهم وتخفيف معاناة المرضى. ولم تتورع الأحزاب عن رمي طلاب المدارس وأطفالها، في لهيب السياسة ولعبها، فمن وسوس لطلاب المدارس أن يتمردوا ويدعموا أحزاباً ومواقف أعلى من خبراتهم الفكرية والحياتية؟. لا بد أنهم قد تلقوا «تعليمات» من معلميهم المحزبين لتوظيفهم، أداة في الصراع السياسي، إذ تكوين الطلاب الفكري لا يؤهلهم لاتخاذ مواقف فاصلة بشأن إستراتيجيات إدارة الدول. وزجهم في صراع منابر وأيديولوجيات وفلسفات معقدة، جريمة بحق الجيل والأمة. ومع ذلك نجد أجهزة إعلام يزعم قيموها الحرص على نظافة اليد وسلامة الضمير، تصفق لهذا الاستغلال الدنيء لبراءة الأطفال. وزادني ألماً أن أحد الجزائريين تحدث عن «حراك» في «فيسبوك» ووسائل التواصل، فهذه الشبكات تستغلها الأحزاب والاستخبارات الدولية وأهل الأهواء وحتى الشبكات الإجرامية، بأسلوب منظم ومتقن وواسع، للدعاية والتوجيه والتحريض لخدمة مصالحها أكثر مما توظف لخدمة الضمير. الحزبية تختطف العقل المستقل وتربطه بشبكات المصالح، ويصبح العامة، مجرد أدوات لعب في الصراع السياسي الذي يديره المنظرون الحزبيون الذين يستلهمون روح نيقولا ميكافيلي ونهجه أن «الغاية تبرر الوسيلة». وأسوأ أمراض وسائل التواصل، هو الأسماء المستعارة، التي يمكن أن تكون أي شيء آخر، إلا أن تعنى بقضية الإنسان. وهي الآن تعمل بأقصى طاقاتها للتحريض والتضليل واختطاف عقول الناس وتوجيههم. هذه هي السياسة، وأخلاقيات التحزيب، التي تبدع في فنون التوحش، وتحويل الناس إلى سلع تداول حزبي ومصلحي، وفي نفس الوقت تضج بشعارات خداعة لامعة، إمعاناً في التضليل لتحقيق مصالحها وأنانيتها. بقي أن نقول إن المسرح مكشوف وفاضح، فكثير من العرب المخاتلين الذين يدعون الليبرالية وتحرير الشعوب، ويهبون لمساندة أي حركة في الوطن العربي، هم أنفسهم يعادون حراك السوريين ويساندون النظام الديكتاتوري الإيراني ومنظماته الإرهابية، مثل حزب الله، التي تعتمد الخرافات والشعوذات علناً وتسفك الدماء في سبيلها. ولا يرون في عمامة خامنئي إلا أنها بهجة الدنيا ونعيم الآخرة. وتر لا تظنن مصابيح الفضائيات نجوماً.. ولا تلك الهالات المزيفة مطراً.. ولا تغرنك خطابيات المسارح المهندسة.. مد يديك للشرق.. وامسك، برائحتيك المتعبتين، خصل الشمس.. وقبضة من الصباح البهي.. [email protected]