يستقبل العقل الإنساني عن طريق الحواس كما هائلا من الصور والأحداث والمشاهدات، فيخضعها لعملية انتقاء وترشيح، فيقبل ويرفض ثم يشكل في ذهنه خارطة ذات حدود تكون عالمه الذي يعيش فيه، وقد تكون صغيرة أو كبيرة الحجم، مضيئة أو مظلمة الإنارة، لكنه يعتبرها العالم الحقيقي، والأغلبية منا لا تحاول تجديد ملامحها أو تجاوز سدودها. تلك هي خدعة الإدراك، فهو يعمل بشكل انتقائي مبرمج على قناعاته المسبقة، التي تعمل كمرشحات غير واعية لتجارب الحياة، فاللاوعي لا يعترف بوجود ما يتناقض مع برمجته حتى ولو كانت الحواس تلمس أمورا مغايرة. وحين ينظر رجلان من نفس النافذة في يوم ممطر، سيشتكي أحدهم من غرق الشوارع بالمياه وارتباك المرور، بينما سيتنهد الآخر ببهجة وسعادة لارتواء الأشجار بماء المطر ولجمال قوس قزح في السماء. لقد اختلف تقييم الرجلين لنفس التجربة لاختلاف الاتجاه الذي تم التركيز عليه، فانتقائية الإدراك تعمل كالكاميرا التي لا تلتقط إلا جزءا محددا من المنظر. إذا ذهبت إلى حفل كبير مزدحم بالناس فقد تلمح في أحد الزوايا بضعة أشخاص يتجادلون بقوة وصوت عال مع احتداد انفعالاتهم، وقد تقوم بالتقاط صورة لهم تمكنك من وصف الحفلة لأصدقائك بأنها كانت فاشلة ذات أجواء مزعجة، والصورة تؤكد كلامك، وسيقتنعون تماما برأيك. فأنت تمارس هنا عملية تعميم generalaization لجزء من التجربة، وجعلتها تقييما شموليا لكامل الموقف، على حساب حذف deletion لمساحة كبيرة مخالفة لرؤيتك، وربما لم يكن تعميمك من فراغ، بل من مشاعر غير صافية نحو صاحب الدعوة أو قناعات مترسخة عن ضجيج هذه الاجتماعات، وساهمت رغبتك الشخصية في إقناع من حولك بمصداقيتك، ففكرتك السلبية المسبقة المترسخة في اللاوعي جعلتك تبحث عما يتناسب معها، وأعاقت وعيك عن رؤية كامل التجربة لوجود حاجز إسمنتي فاصل بين الوعي واللاوعي. يبرز هنا دور مسؤولية الكلمة التي قد تشوه موقفا يستشري مداه ولا يعلم منتهاه، ففي مثال الحفلة السابق يمكن لرأيك المبتور والمختزل لحقيقة الموقف أن يجعل المحيطين بك يستقبلون التجربة من منظورك، دون أن يمنحوا أنفسهم الفرصة لاختبار اتساع أبعاد التجربة. وصدق الشافعي حين قال، «عين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا» فنحن لا نرى العالم بعيوننا، بل بعقولنا ومبرمجاتنا السابقة، التي تبحث عما يؤكد مصداقيتها، ويتغافل عما يخالفها. إذا شعرت بالرغبة في تبني منظار أجمل للحياة فهناك تكتيك علمي يمنحك ذلك، حيث تسبب كل فكرة ذهنية تغييرات مجهرية في بنية الدماغ، بمعنى أن الأفكار تترك آثارا مادية في الدماغ بالطريقة نفسها التي نترك بها آثار أقدام على الرمل، فالدماغ شبكة متغيرة باستمرار من الخلايا والروابط العصبية، وعندما نتبنى أفكارا جديدة فنحن ننمي روابط جديدة بين الخلايا العصبية، ومع تكرار الفكرة تزداد ثخانة تلك الروابط ويتشكل الدماغ بشكل مختلف، وهكذا في أي وقت تغير فيه طريقة تفكيرك ستضمر الكثير من الروابط القديمة وتقوى الروابط الجديدة التي تتوافق مع طريقتك الجديدة.