لا يقي دم الحياة من المرض العضال عند الإنسان سوى الشعر حين يفتح لنا قميصه الواسع، ثم يضمنا إلى صدره الدافئ واحدا، واحدا، تاركا رذاذ الماء الذي يطيش من يديه، يبلل وجوهنا، يبلل الأفكار التي ورثناها عنه، منذ السلالة الأولى من الشعراء. لذا لا تغمضوا أعينكم، ولا تخافوا البلل حين يمس نظراتكم، ثمة نجوم ستضيء ليلكم المعتم، تدفعها عربة الشعر الضخمة مع كل قطرة تلامس بشرة أجسادكم. ستضيء ما لا يمكن الانتباه إليه، من كل عشبة نبتت تحت عظمة الساق ومدته بأنفاس الخطو وصلابة الأشجار، وسيكون عليكم أن تنتبهوا للحواس كي لا تذوب من فرط الضوء. الشعراء الذين يضمهم الشعر بذراعيه، ويريهم الكنوز المخبوءة في دمائهم، ستجدون ماء يتدفق، يدور في جميع الاتجاهات ولا يتوقف، يبحث له عن ضفتين، وبئر عميقة لا قرار لها، ولا أظن هذه الإضمامة، وهذه الكنوز سوى هاتين الضفتين، وهذه البئر. ولن يفيض البئر، ولن تضيق الضفتان، ما دامت دلائكم لا تصرخ من التعب، وأيديكم لا تتوقف عن حرث اليابسة. المياه هنا وفيرة. لكن دروبها إلى حقول القصيدة تتسع أو تضيق حسب محراث الأسئلة الذي في أيدينا، وحسب صلابته وقوة ضرباته. إزاء هذه الصلابة، إزاء هذه القوة، ماذا على القصيدة أن تقول؟ ماذا عليها أن تصنع كلما اكتشفنا مسربا جديدا يفضي إلى حقلها الواسع؟! ها نحن أمام الحقل، أمام القصيدة، أعناقنا أسئلة - كما يقول رامبو - وعناقنا يصغي إلى صمت الإجابات، فهل القصيدة تحلم بنفسها أم بأشياء العالم؟! تحلم بالإنسان أم بالصورة التي يكونها عن نفسه؟! أم أنها لا تحلم بتاتا، بل تصبح بالتالي مجرد إناء يضع الشاعر فيه أحلامه ونعاسه ونومه عند كل مساء؟ ثم: لماذا على القصيدة أن تحلم؟! إن حدود القصيدة هي حدود اللغة بينما الشعر لا حد له. وعليه، الأحلام في اللغة تختلف عنها في الشعر، الأولى تتصل بكلماتنا التي أسقيناها ماء مخيلتنا، وأطعمناها من موائد أحاسيسنا، وربيناها على منطق عقولنا، ثم أخذناها بأيدينا وسرنا بها في طرق متعرجة، نهبط واديا ونصعد آخر، نشعل الحطب لتتدفأ في الشتاء، ونجلب الغيوم لتمطر في الصيف. أيام كثيرة نجلس قبالتها، هي تسرد لنا حياتها في القواميس والكتب وفي دور العرض والمكتبات، ونحن ندربها على أن تسمي الأشياء التي نحبها في الحياة كي تحفظها عن ظهر قلب. وإذا ما أوصلناها سالمة إلى باب القصيدة، ودلفنا راجعين إلى بيوتنا، وقفنا على العتبات ننتظر ونحن نتساءل بيننا وبين أنفسنا: متى ينفتح الباب؟ متى ينفتح الباب؟! لأن الصرير الذي سيتردد صداه في أسماعنا هو الإشارة الى أن كلماتنا في القصيدة بدأت تحلم بالخروج إلى العالم بكامل حلتها وزينتها. وهذا هو بالتحديد معنى أن تحلم القصيدة. أما الشعر فلا يعرف الأحلام، بل هو المؤسس المدفون في ضمير الإنسان.