إن السؤال الخطير الذي يمر بالإنسان في حالة الوعي هو: أين عقلي؟ وهذا السؤال مهما حاول الإنسان أن يتغافله إلا أنه يرجع ويلح عليه إلحاحاً, فيبدأ بمراجعة ما مرَّ عليه من أيام مضت ويطرح الأسئلة: أين عقلي يوم عملت كذا وكذا؟ أين عقلي يوم ضيعت على نفسي فرصة تلو فرصة؟ أين عقلي يوم سلمته لفلان وفلان وتحكموا في أفكاري وتصوراتي وصرت أتحرك بملء إرادتهم وكأنني رجلٌ آلي يوجه من بعيد؟ إن التساؤل عن العقل المقيد هو بداية الطريق لعقل جديد ينظر للحياة بكل طموح وتفاؤل, وهذا العقل الذي يريد أن يكون حراً متميزاً بعيداً عن كل الأغلال والقيود فإنه لابد أن يكون لديه روح وقدرة للتضحية والتخلي عن كثير من القناعات المزيفة التي ورثها الإنسان من ركامات اجتماعية وسلطوية, يقول أوشو: «كلما ارتفعت صعوداً كان عليك رمي المزيد من الأمتعة», وفي سياق موضوعنا فإن الأفكار والقناعات البشرية والاجتماعية التي يتبناها الإنسان هي أكثر العوائق التي تؤخر مسيرة التفكير وتشكيل الوعي ووضوح الصورة نحو الحياة والأشياء, ولذلك فقد كان لزاماً على الإنسان أن يبدأ في البحث عن عقله من خلال طرح الأسئلة, ومحاسبة للنفس مع النفس دون تدخل أحد ما فيما بين الإنسان وذاته. لقد أثبتت الأيام ولا تزال أن الحياة مليئة بنوع من السجانين للعقول والأفكار والطاقات الخلاقة, وهؤلاء السجانون للعقل البشري يمارسون أقسى أنواع الوصاية الفكرية والتربوية والأخلاقية على الناس الذين (ولدتهم أمهاتهم أحراراً), وهم لا شغل لهم ولا تفكير في حياتهم سوى المتابعة لمن جاء ومن ذهب, ولمن عمل ولمن تقاعس, ولمن نجح ولمن أخفق, وهم في تتبع لخطوات الناجحين لا ليشجعوهم, بل ليقفوا حائلاً بينهم وبين الوصول للغايات, وهذا هو الذي يسمونه الحسد والعياذ بالله. لقد أثبتت الأيام ولا تزال أن الحياة مليئة بنوع من السجانين للعقول والأفكار والطاقات الخلاقة, وهؤلاء السجانون للعقل البشري يمارسون أقسى أنواع الوصاية الفكرية والتربوية والأخلاقية على الناس الذين (ولدتهم أمهاتهم أحراراً), وهم في تتبع لخطوات الناجحين لا ليشجعوهم, بل ليقفوا حائلاً بينهم وبين الوصول للغايات, وهذا هو الذي يسمونه الحسد والعياذ بالله.ولذلك فإن أدرك الإنسان أنه واقع في مأزق الوصاية من آخرين, ويريد التخلص من تلك السلطة الكريهة فعليه أن يتماسك جيداً, ويقرأ واقعه وتاريخه, ويتلمس حياة الأحرار الذين سبقوه, ويتأمل التجارب الحياتية لرموز الأمل والتفاؤل في الحياة من خلال معرفتهم عن قرب, أو قراءة سيرهم الذاتية, ومعاناتهم الاجتماعية, كما أنه لابد له أن يحدد هدفه في الحياة, ويرسم لنفسه مساراً للمستقبل دون أن يلتفت للوراء ويتراجع للخذلان. أتذكر قصة رمزية كنت قرأتها صغيراً, ولكن الوعي بها يزداد كلما تقدمت في مسارات الطموح, وكسر أغلال الوصاية العقلية, تقول القصة: تربى أحد النسور مع مجموعة من الدجاج في حظيرة ضيقة بائسة, وكلما كبر رأى أن جسمه وريشه يختلف عن جسم الدجاج وريشه, فيبدأ بسؤال الدجاجة الكبيرة عن هذا الفارق بينهم, فتبدأ بتعنيفه وتقول له صباح كل يوم: قل معي: أنا دجاجة! فيردد: أنا دجاجة, وتبدأ حظيرة الدجاج بالغناء: أنا دجاجة, أنا دجاجة, ومع كل ترنيمة كانت الدجاجات تبيض, إلا أن النسر حاول مراراً أن يبيض لكن لا جدوى, وكلما أراد أن يسأل تعنفه الدجاجة وتلقنه أغنية: أنا دجاجة, حتى اقتنع بذلك. وفي يوم من الأيام رفع النسر رأسه للسماء فرأى عدداً من النسور تطير في الهواء بكل حرية وانتظام, فلما قارن منظره بمنظر النسور الطائرة قال: كأنها تشبهني؟ وصرخ إنها تشبهني, وحاول تقليدها وحرك جناحيه وشيئاً فشيئاً بدأ يطير ويرتفع عن الأرض, والدجاجة تقول له أنت دجاجة, ولكنه أدرك بعد كثير من الأسئلة والمقارنات أنه تعرض لحالة كذب غيبته عن حياته ووجوده الحقيقي, وعرف فيما بعد أنه خلق ليكون طائراً حراً في سماوات الله تعالى, لا أن يكون دجاجة تبيض كل يوم بيضة ولا تعرف مكاناً غير الحظيرة.! في مسرحية «على هامان يافرعون» نجد أن بطل المسرحية (سند) الموظف البسيط يحلم ببنت المدير في منامه, فيقوم المدير بتوبيخه وتعنيفه قائلاً: احلم على مستواك, موب تحلم ببنات الحمايل! فقال له: هذا حلم! قال: أدري بس أي حلم فيه سياسة أو قلة أدب مابي! وهذا المقطع من المسرحية فيه نقد لاذع مليء بالسخرية لسلطة المدير لدرجة أنه يتحكم في أحلام الموظف البسيط, ويقنن له أنواع الأحلام التي يحلم بها دون غيرها, وهذه سخرية تامة من خطاب القمع والوصاية على العقول والأفكار مهما كانت ساذجة أو عظيمة. [email protected]