الظلام لا يخيف مَنْ أوقد شمعة في طريقه، والضوء لن يفسح الدرب لمَنْ أغمض عينيه. تماما كالذي يحول الأرض القاحلة لواحة خضراء، وآخر يقتلع الزرع والزهر ويحول البستان لأرض شمطاء. وبين الظلام والنور حكايات تبدأ، وأخرى تمرض، والبعض منها يموت، لكن الحكايات الكبيرة تبقى في الذاكرة، ويعجز النسيان عن هزيمتها حتى لو توارت عن الأنظار. تبقى في كل ركن، وتظهر في كل الزوايا، وتفوح منها ذاكرة الفرح، فهي كل العناوين المرتبطة بالمكان والزمان. يحاولون الهرب من التاريخ ومن المجد ومن الصخب ومن قصص الناس، لكنهم في كل مرة يفشلون، ويعودون صاغرين لمحطات الحياة، يتغنون بمجدها وحقبتها الأجمل. انها حكاية لا تنسى ولن تنسى؛ لأنها باختصار أيقونة القصص، وفلسفة الانتماء، وعنوان الكبار، ومضرب الأمثال، وكل الساعين لطمسها ساروا خلف السراب، ولم يجنوا سوى (مياه الصحراء). حتى في آلامها شموخ، بل في سقوطها دروس؛ لأنها حكاية بين (الأنا) و(اللا أنا)، بين الذي يقتل ويسير في الجنازة باكيا، وبين المقتول الذي يفرح لسلامة قاتله. باختصار.. هي الحياة.. تعطي أحيانا وتأخذ في أحيان كثيرة، والمحظوظ هو مَنْ رسّخ اسمه في ذاكرة الزمان والمكان ليجعل غيره يعاني الظمأ حتى وهو يسبح في نهر التمني تحت وطأة لعل وعسى، فيكبر الصغير، ويصغر الكبير في دائرة التعويض. تلك هي اللغة المجنونة السائدة في عالمنا، في دكاكين الغل والحقد والكره والتعصب، أو بقالات المؤامرة، أو حتى الشوارع المهجورة. والعناد الداء، الذي لم يجد له دواء مع مَنْ يرسم خارطة متعرجة، حتى للذين يسيرون معه لم يفهموا لا خطوطها ولا مواقعها، ولا حتى بحرها وبرها وجبلها وهضابها لتصبح طلاسم يصعب فكها. هي باختصار الحياة، التي نام البعض على وسادتها فغرق في أحلام اليقظة، ولم يصح إلا والقطار غادر محطته، أما أولئك الذين ناموا في احدى كبائنه السياحية تحت وطأة ضجيج عرباته، ورضوا بأن يكونوا مثل البضائع يقذفهم البعض عند التوقف في كل محطة، فهم أشبه بالطرش في الزفة.