جميل أن يتحدث البشر عن قيم إنسانية راقية، فهذا دليل على أن الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا يزال لها صوت على الرغم من ركام المعاناة الإنسانية الذي يحتاج إلى تفعيل هذه القيم على أرض الواقع. بالأمس تحدث العالم عن (التضامن الإنساني) الذي يعتبر في إعلان الألفية أحد القيم الأساسية للعلاقات الدولية في القرن 21؛ ولذا أعلنت الجمعية العامة يوم 20 ديسمبر يوما عالميا للتضامن الإنساني؛ إيمانا منها بأن تعزيز ثقافة التضامن والتعاون ضرورة لحل المشاكل الدولية ذات الطابع الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الإنساني، ورد الحقوق إلى أهلها وتحسين ظروف العيش بشكل عام. ويقولون إنه يوم للاحتفاء بوحدتنا في إطار التنوع، ورفع مستوى الوعي العام بأهمية التضامن، وتشجيع النقاش بشأن سبل تعزيز التضامن لتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية، بما في ذلك القضاء على الفقر وتشجيع على مبادرات جديدة للقضاء عليه. وهي أقوال محمودة، وعندما تصبح ممارسات فعلية فستكون النتائج مبهرة، ويتطلب ذلك العمل على تحقيق أمرين: الأول: السعي إلى (أنسنة التضامن) وتحريره من القيود العرقية والطائفية، وهو هدف كبير لا بد من العمل على تحقيقه؛ حتى لا ينحبس التضامن في إطار ضيق الأفق معزول عن سياقه الكوني الإنساني. وما أحوجنا إلى بناء وعي ثقافي يزيح الحواجز الوهمية بين مختلف المجتمعات والشعوب حول العالم، هذا ما صنعه الإسلام، حيث أكد على بناء المشترك الإنساني في كتابه العزيز كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (13) سورة الحجرات. والخطاب في الآية الكريمة ذو بعد إنساني للناس بصرف النظر عن معتقدهم ولغتهم وعرقهم ولونهم وجنسهم وهي تذكّر بوحدة الأصل الإنساني. وعملية التعارف على الصعيد الحضاري تتسع لتبادل المعارف والخبرات عن طريق معرفة الأبعاد المتعددة للآخر، وهي أساس جوهري للوصول إلى التضامن الإنساني. الثاني: استثمار الجهود ومساعدة كل قادر على أن يعمل ليس فقط لسد حاجاته الشخصية، وإنما ليسهم في دعم الفئات العاجزة عن حركة الكسب. وهو معنى صريح في قول رسول الإسلام في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ، قِيلَ: أَرَأَيْت إنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: يَعْتَمِلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ، قَالَ: أَرَأَيْت إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفِ، قَالَ: قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْت إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ الْخَيْرِ، قَالَ: أَرَأَيْت إنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: يُمْسِكُ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ). في القول النبوي: (يَعْتَمِلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ)، فتح الباب لمضاعفة الجهود لتحقيق النفع الشخصي والعام. أما الاكتفاء بتقديم المساعدات في الإطار الاستهلاكي فهو إبقاء لفئات قادرة على العمل وتنتظر-في اتكالية معيبة- ما يجود به المحسنون. إن التضامن -عزيزي القارئ- كلمة مكونة من ثلاثة أحرف هي (نحن) ونحلة واحدة لا تجني العسل.