كنت أحد المدعوين إلى فعالية (مواطن نزيه لمجتمع آمن) برعاية معالي مدير جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل، واستمعت إلى محاضرة قيمة لفضيلة مفتي المنطقة الشرقية مع عروض توعوية عن النزاهة، في صباح الأحد الماضي، ويأتي ذلك تزامنا مع اليوم العالمي لمكافحة الفساد الذي يقام سنويا في العاشر من ديسمبر. وأكدت هذه الفعالية على أهمية التحلّي بالنزاهة integrity باعتبارها الداعم الأخلاقي في مكافحة الفساد الذي تتصدى له الأجهزة الرقابية. وأصل كلمة النزاهة يدُل على الابتعاد، فمعناها اللغوي البُعْد عن السُّوء. والترفع عنه، والنزاهة في مفهومها الوظيفي الابتعاد عن أي ممارسة تؤدي إلى الإخلال بالواجبات والمهام للموظف من إساءة استخدام الصلاحيات والمحاباة والتربح غير المشروع من وراء الوظيفة. إن ترسيخ هذه القيمة مشروع تربوي يبدأ من الأسرة والمسجد والمدرسة والجامعة والتوعية الإعلامية. والعامل الفعال في تحري النزاهة هو الرقابة الذاتية Self-censorship، وهي إحدى القيم الإسلامية التي تنبع من إيماننا بالله المطلع على كل تصرفاتنا قال تعالى:«إن الله كان عليكم رقيبا» [النساء:1] وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ [التوبة: 78]. ويعرّف ابن القيّم رحمه الله المراقبة بأنها: دوام علم العبد وتيقّنه باطّلاع الحقّ سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه. والرقابة الذاتية في الإطار الوظيفي تعني إحساس العنصر البشري العامل بأنه مكلف بأداء العمل ومؤتمن عليه من غير حاجة إلى مسؤول يذكره بمسؤولياته. إننا نعلم أولادنا وطلابنا أن الله يرانا، لكن لا يكفى حفظ هذه العبارة أو ترديدها، بل لابد من أن تنعكس في سلوكهم لتكون ثقافة حية في حياتهم،وهذا يتطلب نموذج.القدوة وتطبيق المبادئ التربوية العملية. ولذلك نجد القرآن يجعل العمل منطلقا من الإدراك الجازم بأن الله يرانا، قال تعالى (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [ سورة التوبة: 105]. وهذا هو المحك الحقيقي، الالتزام العملي في الممارسة الوظيفية أما الموافقة على المبدأ فالأغلبية الساحقة تقبل به، وقد كشفت دراسة صدرت حديثا عن مركز البحوث والدراسات الاستشارية في جامعة الملك خالد تحت عنوان «تعزيز وتفعيل جوانب المسؤولية الاجتماعية من خلال الجهات الحكومية والقطاع الخاص والأفراد»، أن العينة التي أجريت عليها الدراسة وعددهم 1445 شخصا، يوافقون على أهمية الرقابة الذاتية بنسبة 99 % حتى في حال غياب الرقابة والمتابعة الخارجية. وفي الدول الغربية بدأ التوجه إلى استخدام القيم والعادات التي تحث على الالتزام، وإدراج الرقابة الذاتية في قائمة عناصر ثقافتها التنظيمية، فيما يعرف بأسلوب استخدام القيم في التحكم في السلوك الإنساني (Ethics as Behavior Control)، ويدخل في ذلك مواثيق العمل وأخلاقيات المهنة. إن حديثي عن النزاهة والرقابة الذاتية لا يغني عن وجود الأنظمة الإدارية والأجهزة الرقابية التي تعمل على مكافحة الفساد. لكننا ننوه بأهمية النزاهة من الداخل التي شرعها منهج الإسلام لتحصين النفس، وتزويدها بالطاقة الإيجابية الإيمانية المكافحة للفساد قبل وقوعه، دون أن يغفل مصادر الرقابة الخارجية.