من الأشياء المهمة التي تعلمتها من الحياة، أن أقدر جميع المهن وأصحابها، بسيطة كانت أم معقدة. من الخادمة المغتربة التي تركت أطفالها خلفها بآلاف الأميال إلى المسؤول مهيب الطلة، يحمله على كفوف الراحة حشد من المستشارين والمساعدين. بعض المهن تشع بالجمال مثل عمل منسق الزهور، وبعضها مقزز مثل تنظيف دورات المياه العامة. بعض المهن يختارها الشخص للعمل بها بكامل إرادته، وبعضها تتلبس الشخص رغما عن أنفه لتوفير لقمة العيش أو غير ذلك من أسباب، لأن الله سبحانه وتعالى يسخر الخلق لعمارة الأرض وخدمة بعضهم بعضا. كل مهنة لها مزاياها ومتاعبها. نادرا ما تجد أحدا راضيا عن عمله. وعندما تسأله عن الحال، سرعان ما ينطلق بالتشكي والتذمر من ضغط العمل «والله مكروفين» بينما هو يعمل في مكتب مريح لساعات محدودة مع «قهوة رايح وشاي جاي» وننسى ما يعيشه آخرون في مهن مرعبة من شدة صعوبتها. كنت أنظر إلى مهمة الأم على أنها أصعب مهنة والحديث عنها يستحق مقالات ولكنها ليست موضوعي هنا، لأنني مؤخرا أعطيت هذه المرتبة العاملين في مجال الطب وخاصة الأطباء والممرضين. يا إلهي! من ذا الذي يريد أن يعطي من عمره 15 سنة أو أكثر من الدراسة والتعلم لكي يقضي يومه وأحيانا لياليه في أروقة مبنى ندعو الله دائما أن لا ندخله، يعبق برائحة المعقمات الخانقة، وأصوات التعب، وهذا يئن وتلك «تون»؟! من يستطيع تحمل كل هذه الوجوه الصفراء والعيون البائسة النظرات التي تستجدي تخليصها من الألم؟! ثم يأتيك أهل المريض الذين يتشبثون بك، يلاحقونك أو (يجرجرونك) وكأن ليس لديك من تهتم به غير مريضهم. من يريد أن يداوم 12 ساعة أو أكثر ما بين مناوبات نهارية وليلية للعناية بابن أو أب أو أم لأناس آخرين؟! من يريد أن يقف ساعات يخوض بيديه في أحشاء لزجة دموية اللون والرائحة؟ ولا ننسى! فني المختبر في الكواليس، وما يتفحصه للبحث عن سبب ألمك! لذلك كان والدي رحمه الله يقول «فكنا الله» من دراسة الطب. بدأ عقلي كتابة هذا المقال وأنا على السرير في أحد المستشفيات إثر وعكة صحية أصابتني استدعت تدخلا جراحيا. فرغم الألم والانزعاج، لم أستطع منذ وصولي قسم الطوارئ تهدئة عقلي عن التفكير في عالم الطب وأهله، وتقدير كل مرفق وجهاز ومواد وأدوات وكل من اخترعها وصنعها ووفرها لنا ومن يشغلها من أجلنا. جهاز الأشعة الفضائي الشكل، هذا السرير المتحرك، الإبرة المغروزة في يدي ومعها قطعة بلاستيكية أنبوبية لضخ أكثر من دواء في وقت واحد وكنت أنظر إليها معظم الوقت معجبة بها وبألوانها التي تشبه ألعاب الأطفال. كنت أفكر في ما حولي أكثر مما يحدث في داخلي. وعندما حان موعد إجراء العملية، تساءلت هل يجب علي أن أخاف الآن أم ماذا؟ هل أغمض عيني أم أتركهما مفتوحتين لمشاهدة ما يحدث؟ بدأ الممرض بدفع السرير بسرعة أزعجتني وأردت أن أشير إليه بيدي أن يخفف السرعة ولكنني تراجعت. لا بد أنهم يحسبون الثواني! وعند مدخل غرفة العمليات رأيت طبيبي الجراح بابتسامته التي تغشى كل ملامحه وتشع من عينيه، واقفا عند مكتب الاستقبال، ربما كان يأخذ جرعة صغيرة من الاستراحة بين عملية وأخرى، ومع ذلك حياني قائلا: (قدامك العافية ناهد). يا لها من لمسة لطيفة جدا!! وإن كنت توجست لماذا هو ليس في الداخل!؟ هل تم تكليف طبيب آخر غيره؟ لا. ولم ينته انبهاري، وصلت غرفة العمليات وأخذ الجميع يتحركون بي بسرعة وسلاسة ذكرتني بحركة فرق صيانة سيارات سباق الفورمولا داخل المضمار. وأجمل من هذا كله أخصائي التخدير الذي بدأ مهمته وكأنه يهمس في أذني: باسم الله عليك وتوكلنا على الله. أشعر بكم من الامتنان لهؤلاء القوم ولا أدري كيف أعبر عنه. هذا هو «الكرف» الحقيقي! ليسوا بشرا عاديين، ولا بد أن قلب الطبيب وعقله يختلفان عن غيره. فالعمل المتخصص في أكثر مخلوقات الله تعقيدا، الإنسان بجسده المذهل وروحه الخفية، يتطلب صفات خارقة من الشجاعة والصبر والنبل والثقة والإيمان.