اللقاء التلفزيوني الذي أجراه الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري السابق، مع القناة الأمريكية الشهيرة «بي بي إس» في برنامج «تشارلي روز»، ربما يكون هو آخر ما تحتاجه دولة قطر في حال رغبتها إيصال وجهة نظرها إلى العالم الخارجي. فالشخصية التي حملت تلك الرسالة يدور حولها العديد من علامات الاستفهام، فيما يخص أدوار من الممكن نسبتها إلى الشيخ حمد بن جاسم بحكم المناصب التي تقلدها طوال عقود، بدأت من تاريخ تعيينه وزيرا للخارجية في العام 1992م وامتدادا لاحتفاظه بالمنصب، مع إضافة رئاسة الوزراء له بداية من العام 2007م، وحتى اعفائه في العام 2013م. مسيرة طويلة داخل مسؤولية إدارة الملفات الرئيسية للدولة القطرية، مع ما شابها من جدل واسع استتبع إبعادا مفاجئا من دائرة الأضواء، كي تعفي الدولة القطرية نفسها حينئذ من رذاذ هذا الجدل وعدم الارتياح العام الذي لم يكن يخفى على أحد. مصداقية مفقودة لذلك لم يكن مستغربا بالمرة أن يشتمل الحديث التلفزيوني للشيخ حمد بن جاسم على حزمة من المغالطات والتشويش مصحوبة بحالة ارتباك شديد، في وقت كان يفترض أن يبحث فيه عن قدر من المصداقية المفقودة. بدا الشيخ حمد بن جاسم منذ البداية غير قادر على بناء الأرضية التي سينطلق منها في طيات الحوار التلفزيوني. فهو بدا وكأنه يسوق لموقف قطري قوي ومستقر لا يأبه بالمقاطعة الخليجية، مشددا على رفض بلاده المساس بسيادتها أو التشكيك في نزاهتها، غير أنه سرعان ما انقلب على نفسه وطرحه الأول متسائلا بصيغة التشكي المرير «أين القانون الدولي؟»؛ مطالبا بأن يقف القانون الدولي أمام تجاوزات الدول التي قامت بحصار ومقاطعة قطر. مبادئ السيادة وهنا لم يكن الشيخ حمد بن جاسم قد سقط في فخ ارتباك الطرح وتناقضه فحسب، بل دخل بقدميه في مساحة من المغالطة الفادحة التي تخلط عن عمد بين الحصار والمقاطعة الدبلوماسية. ففي الوقت الذي كان يحاول إيهام محاوره ومستمعيه أنه يستدعي مرجعية «القانون الدولي» كإضفاء للقيمة والرصانة في الحديث؛ غاب عنه أن الفرق والبون شاسع بين الحالتين «المقاطعة، والحصار». وأن الدول الخليجية ومصر وغيرهم من الدول التي أصدرت قرارات بالمقاطعة أو تخفيض التمثيل الدبلوماسي، لم تستخدم في ذلك سوى حقها الكامل الذي كفله «القانون الدولي» ومبادئ السيادة، في قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة أخرى لدى تلك الدول العديد من التحفظات على سياساتها المهددة لمعادلات الأمن الإقليمي، فضلا عن تورطها في دعم نشاطات إرهابية تزعزع الاستقرارين السياسي والأمني لدول بعينها. الابتزاز الإنساني ولم يكن الخلط في حديث الشيخ حمد بن جاسم بين مصطلحي «المقاطعة، والحصار» على سبيل الارتباك والتشويش فقط، لكنه جاء أيضا كصورة من صور الابتزاز الانساني؛ الذي يحاول المتحدث من خلاله اضفاء فعل عدائي مارسته الدول المشار إليها بحق دولة قطر. في الوقت الذي يعلم جميع المواطنين الخليجيين والقطريين بالخصوص، أن كلا من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارت والبحرين لم يمارسوا في طيات قراراتهم الدبلوماسية أي فعل عدائي تجاه قطر الدولة أو الشعب، بل كانوا منذ اللحظة الأولى الأحرص على وضع الأمر في سياقه الدبلوماسي من دون أي قدر من التزيد. وهذه النقطة ربما لا تحتاج إلى تأكيد شواهدها عربيا، فهي من المعلوم للكافة في المنطقة. لكن موضعها في حديث الشيخ حمد كان المستهدف به هو الجمهور الغربي والأمريكي على وجه الخصوص؛ باعتبار الحديث التلفزيوني لقناة أمريكية متوجها بهذا الطرح إلى الرأي العام الأمريكي، في محاولة لإقناع سياسيين أمريكيين بالضغط على إدارة ترامب لتخفيف موقفها الحازم تجاه قطر. سياق غير مستغرب الأكثر دلالة في سياق دس المغالطات، ساقها الشيخ حمد بن جاسم بحديثه عن منع إمدادات الطعام، وتمزيق الأسر، فوفق ما ذكره هناك العديد من الحالات التي عانت من ذلك، كما اتهم الدول التي قررت مقاطعة قطر دبلوماسيا بأنها قامت بإغلاق الأجواء والمسارات البحرية. إما متناسيا أو مضللا بأن الدول الخليجية خرجت جميعها بتصريحات رسمية على ألسنة مسؤوليها، تتكفل بحل أي مشكلات قد تقع فيها أي من العائلات المشتركة بين قطر وأي من دولهم، وهناك أرقام تليفونية في وزارات خارجية السعودية والإمارات والبحرين تعمل على مدار الساعة على هذا الأمر. وهناك فيما يخص الحالات الانسانية والطارئة توجيه ملكي صدر من المملكة العربية السعودية وتبعتها فيه كل من الإمارات والبحرين، يكلف وزارة الخارجية بالتدخل المباشر لتذليل كافة أنواع مشكلات الانتقال أو الاقامة أو الدراسة أو تلقي العلاج وغيرها، ليس للعائلات المشتركة فقط وإنما يمتد ذلك حتى فيما يخص المواطنين والعائلات القطرية. وهو سياق غير مستغرب من دول مجلس التعاون الخليجي التي تؤكد دوما على أنها حاضرة في كل ما يتعلق بأشكال الدعم الإنساني، لمواطني تلك الدول في المقام الأول ويمتد إلى الكثير من دول الجوار والدول الإسلامية على مستوى العالم. ويبقى في هذا الإطار ما حاول الشيخ حمد وغيره من الأصوات القطرية ترويجه خلال الأيام الماضية، فيما يتعلق بغلق المسارات البحرية والجوية لدولة قطر؛ وهي مزاعم متهافتة في الوقت الذي لم تنقطع فيه الأخبار المنشورة عن الجسر الملاحي الجديد الذي تم تدشينه وبدأ تسييره بين الدوحة ومسقط، والإعلان الإيراني عن تخصيص ثلاثة موانئ إيرانية ستخصص لتزويد قطر بكافة احتياجاتها الغذائية؛ قبل وصول الجسر الجوي التركي الذي أغرق أسواق الدوحة بكافة البضائع والمنتجات التركية منذ الساعات الأولى لقرار المقاطعة. والذي من الجدير ذكره أن أيا من دول المقاطعة لم تتدخل في هذه الترتيبات بين قطر وغيرها من الدول، ولم تمارس ضغطا أو أيا من أشكال عرقلة مثل هذه الترتيبات لأنها بالأساس دول تدرك كيف تدير خصومتها ومشكلاتها بالصورة الرصينة المحترمة، بعيدا عن التشويش والتضليل القطري الذي جاء هذ المرة على لسان الشيخ حمد بن جاسم في حديثه المتلفز للقناة الأمريكية. رغم ما يتمتع به الشيخ حمد بن جاسم من مهارات التواصل الإعلامي، إلا أنه لم يفلت من السقوط مرات في فخ الارتباك خلال هذا الحديث أمام أسئلة محاوره، خاصة تلك المتعلقة بتمويل قطر للنشاطات الإرهابية، فجاءت الردود باهتة ولم تجب عن تساؤل واحد واكتفت بترديد كلام عام موجه «أيضا» للرأي العام الأمريكي «وحده»، من نوع: «إن قطر شريك للولايات المتحدةالأمريكية في مكافحة الإرهاب بعد 11 سبتمبر/ أيلول، وقد قمنا بتسهيل قدوم القوات الأمريكية قبل أن يكون لها قاعدة في قطر». وهو حديث شديد العمومية مرتبك لم يتناول إجابات عن احتضان قطر لقيادات الإخوان على أراضيها، وملابسات دعمها للتنظيمات الإرهابية في كل من سوريا وليبيا واليمن والعراق، ومعظمها اتهامات خرجت من تلك الدول حتى فيما قبل المقاطعة الأخيرة. وفيه أيضا إغفال تام للدعمين المالي والإعلامي للتنظيمات الإرهابية التابعة لإيران التي ضبط الأمن البحريني أكثر من خلية تابعة لها، استهدفت الأمن الداخلي البحريني في تجاوزات صارخة كانت سببا في احتقان أزمة العام 2014م، والتي تعهدت فيها قطر بعد تحذيرات سعودية صارمة بتغيير نهجها، لكنها سرعان ما انقلبت على ما تعهدت به من التزامات لم ترد بالمرة في حديث الشيخ حمد بن جاسم ولم يأت على ذكرها. خاصة وأن خلال هذه الفترة وحتى اليوم في منتصف العام 2017م كان هناك العديد من الإشارات التي تدفع قطر إلى تغيير نهجها، لكنها ظلت على نهجها الذي يخوض في كافة تناقضات ومهددات أمن المنطقة دون اكتراث بضوابط الجيرة أو المصير المشترك. المعضلة الإيرانية بقيت في النهاية من حديث الشيخ حمد بن جاسم المعضلة الإيرانية، والتي لم يخل حديثه عنها من ذات التشويش والمغالطات التي كان المحاور الأمريكي يريد تفنيدها واستجلاء حقائق العلاقة التي تربط قطربإيران. والأخيرة دولة تصنف حتى اليوم كونها راعية للنشاط الإرهابي؛ فضلا عن انخراطها بقوة في ملفات عديدة بالإقليم، استطاعت على إثر هذا التواجد أن تغذي مشهد الصراع المذهبي المسلح بين أطراف عدة، وتحاول حثيثا زعزعة استقرار دول عربية أخرى. في الوقت الذي تبنى الخطاب القطري وضعها كدولة جارة ولم ينكر علاقات متميزه تجمعهما. وهنا ربما تكرار هذه الحقائق على لسان شخصية بقدر الشيخ حمد بن جاسم يعطي صورة كاشفة عن سنوات مضت ربما لعبت فيه السياسات القطرية دور «حصان طروادة» داخل المعسكر الخليجي والعربي. والحديث قد يطول عن الأجندة الإيرانية التي تستهدف بها طهران ملفات الأمن القومي العربي، وهي على ما يبدو حتى الآن بعيدة عن الأنظار القطرية التي لم تترك مناسبة من دون أن تقوم بدور المروج لدولة إيران، وهذا ملخص ما دار حوله حديث الشيخ حمد بن جاسم من دون زيادة أو نقصان ! * مدير المركز الوطني للدراسات الأمنية - القاهرة