اليوم «مساء» سيضع الفرنسيون نهاية لواحدة من أغرب حملات الانتخابات الفرنسية الرئاسية غرابة من حيث الشكل والمحتوى. ولأن ما جرى في هذه الحملة من تفاصيل حظي بتغطية كونية وبكل اللغات، إلا أن الواجب يقتضي إبراز المعالم الرئيسية الجديدة في هذه الحملة. فلأول مرة يكون التنافس على كرسي الرئاسة الفرنسية بين شخصيتين لا تنتميان للثنائية التقليدية بين القوتين مرشح اليمين ومرشح اليسار. صحيح أن ثمة خطوطا رمادية بين مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن وبعض قوى اليمين الجمهوري المعتدل، وهو ما كشفه التحاق المرشح ديبون إنيان بحملة مارين لوبن، وكذلك ما أعلنه مرشح الحزب الإشتراكي بنوا هامون الذي دعا مؤيديه لانتخاب ماكرون، إلا أن مرشح أقصى اليسار جان لوك ملنشون لم يدع ناخبيه لتأييد أحد المرشحين. أما تأييد الزعامات التقليدية اليمينية لماكرون كفرنسوا فيون وألن جوبية، فتأتي وفقا للسياسة التقليدية لليمين الجمهوري وتحديدا أثناء ولاية جاك شيراك. جاك شيراك، بالمناسبة، وبالرغم من اعتلال صحته، قد يكون ابتسم وهو يشاهد - أو ينقل إليه ما كانت تقوله مارلين لوبن أثناء المناظرة مع إيمانول ماكرون والتي أرادت لها لوبن أن تكون حلقة ملاكمة. شيراك رفض «المهزلة» في عام 2002 ولم يقبل المناظرة مع مرشحة لحزب عنصري يبحث عن توطين أفكاره العنصرية وبأساليب لا توفر حتى البذاءة. وهكذا حدث ما توقعه جاك شيراك. اندفعت مارلين لوبن في إستراتيجية واضحة تقوم على الهجوم ليس على برنامج إيمانول ماكرون وإنما على ماكرون شخصيا. إستراتيجية تقوم على معايير حلبة المصارعة. لم ينتبه ماكرون في البداية لكمائن الخطاب الشعبوي وراح هو الآخر وإن بطبقة صوت أكثر جدية. استغلت لوبن المناسبة وعلقت «هكذا تحولت الابتسامات إلى تكشيرة» تنبه ماكرون وعاد إلى قواعد يجيدها. برنامجه الاقتصادي والاجتماعي الذي له وعليه. هكذا نصب شباكه وهكذا وقعت مارلين في الأخطاء المضرة لسمعتها كمرشحة «للشعب» وتوالت الأخطاء في الأرقام والإحصاءات وسجلت وسائل الإعلام غداة المناظرة أكثر من 25 خطأ. كانت تدرك ضعفها فانساقت في اتهامات وصلت إلى الحياة الشخصية لمنافسها، الشيء الذي مثل ضعفا لاتهاماتها إلى درجة فجة. في المواجهة لم توفر حتى لغة الجسد في الإيماءات الخارجة على تقاليد الرزانة. كان فصلا لا يليق لا بفرنسا ولا بالشعب الفرنسي وكأنني أرى ردود فعل القادة الكبار كالجنرال ديجول وفرنسوا ميتران وهم يشاهدون المهزلة. لكنها لعبة التاريخ الذي «لا يكرر نفسه» بل يبني رصده على الواقع وجديده. اليوم وفي ظل اضطراب الواقع نتيجة انسداد مخارج النظام الاقتصادي العالمي في قضايا العدل «الجائر» في توزيع الثروات، تنبثق كل الآراء المتعارضة من جديد ضد الأنظمة السائدة. يتسع السخط ليشمل قواعد الأنظمة الديمقراطية الأعرق، فينجح دونالد ترامب في الولاياتالمتحدةالأمريكية -زعيمة النظام العالمي الحر-، ويتنافس على زعامة فرنسا الاقتصادي المتشدد إيمانويل ماكرون ومارلين لوبن «الخارجان على» النظام السائد، وهما جزءان نافذان فيه. الفرنسيون على غير عادتهم، اختاروا السلم والاستقرار وسيرسلون اليوم إيمانويل ماكرون إلى الإليزيه ومارين لوبن إلى قواعدها بانتظار «القدر» الذي سيكون محكوما بواقع الانتخابات التشريعية خلال شهر لاستعادة الوعي بمصير دولة عظمى مهددة بتفكك نموذجها السياسي الديمقراطي.