قبل عقدين من الزمن كان المجتمع في مختلف مدن السعودية يعيش مخاض تحولات ديمغرافية وثقافية واقتصادية لم تتبين ملامحها أو مفاصلها إلا لاحقا. وسأتناول هذه المسارات الثلاثة من التحول تباعا في هذه المقالة دون الفصل بينها في مجال التأثير أو التأثر. في الأول كانت المدن تتوسع وتتمدد أفقيا بعدما مضى زمن فيه كانت المدن محصورة عموديا في المكان ذاته، يذهب جيل ثم يأتي جيل محله دون أن يكون ثمة حراك اجتماعي يوسع من نطاق المكان ذاته. لذلك اشتهرت أحياء وحارات وشوارع في بعض المدن أكثر من شهرة المدن ذاتها كالرويسي في جدة، أو شارع التحلية في الرياض، أو حي الكوت بالأحساء على سبيل المثال لا الحصر. لقد أدى التزايد السكاني وضغطه إلى انحسار ذاكرة المكان شيئا فشيئا من السلوك الاجتماعي في حياة الناس اليومية، وهذا أحد الأمور الطبيعية في سنن التطور البشري. لكن ما هو غير طبيعي أن تنحسر هذه الذاكرة من أذهان الناس. أقول هذا الكلام كي أؤكد على حقيقة كون الناس مهما تمددوا في المكان، ومهما اختفت من سلوكياتهم اليومية ذاكرته (وما أعنيه هنا بهذه السلوكيات هو تاريخ من الحوادث التي ترتبط بالإنسان في لحظات نموه في المكان، والتي يستحضرها كلما تطرأ على ذهنه حين يعود إلى المكان ذاته) فإن الأثر الذي تتركه الذاكرة على الإنسان يتحول إلى قيمة تتحكم في شعوره، وبالتالي يتجسد هذا الشعور في الحنين الذي رأيناه في جوانبه الثقافية يطفح بالكثير من الأعمال الروائية التي تعبر عن هذا الحنين بطريقة أو بأخرى. وهنا أصل إلى الرابط بين التوسع الديمغرافي من جهة والأثر الذي تركه على ذهنية الاشتغال الإبداعي والثقافي. ولا يظن أن هذا التأثير المتبادل محصور فقط في أوجه التأثير الإبداعي. (وهنا الجنس الروائي ) بل هناك مسارات عديدة ترتبط بجملة من المتغيرات يكون فيها العامل الديمغرافي هو المحرك في التغيير. فعلى سبيل المثال تتغير فكرة الزمن في أذهاننا عندما ننتقل بفعل الضغط الديمغرافي من مكان إلى آخر، وبالتالي تتغير معها أو تنزاح قيم كثيرة ترتبط معها كالنظرة إلى الآخرين أو الأشياء التي تعودت أن تراها سابقا وقد تراها الآن بصورة مختلفة وهلم جرا. وقد يأتي التأثير معكوسا أيضا، أي على حركة التوزيع الديمغرافي في المدن من طرف الذاكرة الثقافية للمكان المنزاح عنه. وقد رأينا الكثير من السمات العامة للتمدد بحيث يشي بهذا التأثير، فالكثير من العوائل والأسر بحكم قوة ارتباطها بثقافة الجماعة وقيمها كونت لنفسها في المكان الجديد ذاكرة ثقافية يمكن أن نطلق عليها ذاكرة مصغرة وكأنهم لم يكتفوا عندما توسعوا أن يحملوا معهم أشياءهم المادية، بل حتى ذاكرتهم الثقافية أيضا. هناك الكثير لنقوله حول هذه النقطة تحديدا، بدءا في التحول في النظرة إلى العمارة وفنونها وأثر التوسع الديمغرافي وما رافقها من تحول ثقافي يتوسع ويتباطأ حسب قيم الجماعة وموقع هذه القيم منها إلى قوة العامل الاقتصادي الذي في أغلب الاحيان يحدد الطريقة أو الوسط الذي يتم التفاعل فيه بين جميع هذه المسارات: الديمغرافي، الثقافي، الاقتصادي.